العودة الى الصفحة السابقة
يوحنــــا الرسول

يوحنــــا الرسول

جون نور


..... لم يُذكر اسمه في إنجيله وداعة منه، ولكنه اكتفى بقوله عن نفسه: «التِّلْمِيذُ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» (يوحنا 21: 7). كما أنه لم يذكر اسم أحد من ذوي قرباه، لا اسم أبيه ولا أمه، ولا اسم العذراء المباركة.

على أن البشيرين الثلاثة الآخرين قالوا عنه أنه ابن زبدي، وأمه سالومة. أما أبوه فكان – على ما يظهر – من الميسورين، لأنه كان في حيازته عدد من الخدم المأجورين لمساعدته في إصلاح الشباك (مرقس 1: 20). وكان أيضاً يملك بيتاً، وهو البيت الذي آوى إليه بطرس بعد أن أنكر سيده، والذي أسكن فيه العذراء بعد أن استودعها المسيح إلى عنايته في أظلم ساعات الصليب، وكان يوحنا نفسه معروفاً لدى قيافا رئيس الكهنة. ورئيس الكهنة لا يعرف إلا أهل الجاه والكرامة. أما أمه فكانت سيدة تقية فاضلة، وكانت أختاً للعذراء المباركة، فهو إذاً ابن خالة يسوع حسب الجسد، ويبدو لنا أيضاً أن سالومة حظيت بقسط من نعيم الحياة، لأنها كانت بين النساء اللواتي خدمن يسوع، واشتركت معهن في شراء الحنوط الكثير الثمن لتكفين جسده بعد الصلب.

إذاً لم يكن يوحنا فقيراً بالمعنى الذي نفهمه من الفقر، بل كان من عائلة شريفة أما أنه اتخذ صيد الأسماك مهنة له، فذلك لأن عادات اليهود كانت تقضي على أبناء الأشراف والوجهاء أن يتعلموا حرفة ما، تقيهم شر الفاقة، كما يقول التلمود.

وُلد يوحنا في «بيت صيدا» وهي قرية من بحر الجليل، و«يوحنا» كلمة عبرية معناها «الله يتحنن». وقد تربى يوحنا وهو حدث تربية يهودية صارمة، متزمتة، تروض فيها على كراهية السامريين وكل الخوارج عن اليهودية، وعلى التعصب لدينه وأمته ووطنه، حتى دعي فيما بعد – هو وأخوه – «ابني الرعد». ثم تتلمذ ليوحنا المعمدان، نبي البرية المتقشف، فاكتسب مزيداً من الصلابة والحدة. ولكن هذا الإنسان الصلب المتزمت، نجده بين الاثنى عشر الذين اصطفاهم يسوع تلاميذ له.

بعد ذلك بقليل نراه يجتاز إلى السامرة مع يسوع، وهناك يطلب من سيده أن يُنزل ناراً من السماء تحرق القرية الجاحدة التي أبت أن تقدم أصول الضيافة لهم، وتحسن لقاءهم.

وبعد الصلب نراه في صباح القيامة مسرعاً إلى القبر الفارغ. وإذا يشعر بالسأم والملل من طول الانتظار، يزامل السبعة الآخرين الذين عادوا إلى الصيد، وكان مع المسيح في ذلك الصبح عند بحر الجليل. وبعد ذلك نشهده في العلية، وبعد يوم الخمسين، نراه عند «باب الجميل» مع بطرس، ثم ينطلق إلى السامرة، التي كان قد طلب من قبل أن تنزل عليها نار آكلة، لينادي بالقيامة مع بطرس.

ثلاث مرات، نرى السيد يوبخ يوحنا، ويوجه نظره إلى الحق والصواب: الأولى يوم عاب تعصبه وضيق فكره في موقفه الحانق حيال الإنسان الذي كان يخرج الشياطين باسم يسوع، فقال له:

«لاَ تَمْنَعُوهُ، لأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يَصْنَعُ قُوَّةً بِاسْمِي وَيَسْتَطِيعُ سَرِيعًا أَنْ يَقُولَ عَلَيَّ شَرًّا. لأَنَّ مَنْ لَيْسَ عَلَيْنَا فَهُوَ مَعَنَا» (مرقس 9: 39 و40).

ثم وبخه توبيخاً صارماً مرة ثانية، يوم بدت منه روح الانتقام من السامرة، فطلب أن تنزل نار من السماء تأكلها. وهنا أيضاً وقف يوحنا من سيده موقف الولاء والإخلاص، ولكنه إخلاص ممتزج بروح شرير منتقم. وهنا قال له السيد: «لَسْتَ تَعْلَم مِنْ أَيِّ رُوحٍ أَنْتَ» (لوقا 9: 55).

ومرة ثالثة انتهره، في رقة وعطف وعذوبة، ولكن في حزم وصدق وجدّ يوم طلب هو وأخوه مكانة ممتازة في الملكوت العتيد، فقال له: «لَسْتُمَا تَعْلَمَانِ مَا تَطْلُبَانِ. أَتَسْتَطِيعَانِ أَنْ تَشْرَبَا الْكَأْسَ الَّتِي سَوْفَ أَشْرَبُهَا أَنَا، وَأَنْ تَصْطَبِغَا بِالصِّبْغَةِ الَّتِي أَصْطَبغُ بِهَا أَنَا؟» (متّى 20: 22).

وأخيراً نقف أمام الثقة العجيبة التي وضعها يسوع في تلميذه وقد دوّن السفر المقدس واقعتين للدلالة على ذلك: أما الأولى فهي أنه وُكّل إليه أمر العناية بأمه. أما الثانية فهي أن المسيح حين أراد أن يرسل لعبيده إعلاناً عن مجده ونعمته وقوته، اختار يوحنا وبعث له بهذا الإعلان عن طريق أحد ملائكته، كما ذكر الرسول هذا صراحة في ديباجة كتابه:

«إِعْلاَنُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَعْطَاهُ إِيَّاهُ اللهُ، لِيُرِيَ عَبِيدَهُ مَا لاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَنْ قَرِيبٍ، وَبَيَّنَهُ مُرْسِلاً بِيَدِ مَلاَكِهِ لِعَبْدِهِ يُوحَنَّا» (رؤيا 1: 1).

تقول إحدى الروايات إنه لما أحسّ بقرب انتقاله من هذا العالم دعا إليه الشعب، وناولهم العشاء الرباني، ثم وعظهم حاثاً إياهم على الثبات والاحتمال. ثم خرج قليلاً من مدينة أفسس وأمر تلميذه وآخرين معه فحفروا له حفرة هناك، نزل فيها ورفع يديه وصلى. وودعهم وأمرهم أن يعودوا إلى المدينة ويثبّتوا الإخوة في الإيمان قائلاً لهم: «إني بريء الآن من دمكم، لأني لم أترك وصية من وصايا الرب إلا أعلمتكم بها. والآن اعلموا إنكم لا تعودون ترون وجهي فيما بعد، وسيجازي الله كل واحد حسب عمله» ولما قال هذا قبّلوا يديه ورجليه، ثم تركوه ومضوا. فلما علم الشعب بذلك خرجوا جميعهم إلى حيث كان الرسول، فوجدوه قد مات. وبكوا عليه بحرقة، وكانوا يتحدثون بعجائبه ووداعته ومحبته.