العودة الى الصفحة السابقة
قِدّيس وَخاطِئة

قِدّيس وَخاطِئة

«إِنَّهَا خَاطِئَةٌ». (لوقا 39:7) «أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي!!... » (أعمال 7: 59)

جون نور


كان سَمعان فِرّيسيّاً وكان يُحافِظ على كل الناموس يصوم مَرتّين في الأسبوع ويعشر كل مَا يَقتَنيه وهو كما كان يعتقد ويؤمن ليس مثل باقي الناس الخَاطِفين الزُناة وهو مُطمَئِن إلى مَكانه في مَلكوت السماوات على أنه كان يختلف عن باقي الفِريسيين أو على الأصحّ عن غالِبيّة الفِريسيين في أنه كان يلبس ثوب التواضع فلا يسير بانتفاخ وعجرفة زملائه. ونعتقد أن في قلبه شيئاً من الصَلاح. وقد سمع سمعان عن المعلم الجليلي واندهش كيف أن شخصاً لم يدرس في مدرسة الكَتبة يستطيع أن يقدم التعاليم السامية التي قَدّمها. كما اندهش، نظير غيره، من أن تعاليم الناصري كانت بسلطان وتلاقى الفرّيسي والمُعلّم الجَليلي يوماً. وتصافحا وسأله الفرّيسي أن يأكل معه فدخل بيت الفرّيسي واتكأ!

وعلى قدر ما نشكر للفرّيسي سَخاءه على ذلك القدر عينه نَلومه. إذ يبدو أن الدعوة اتسمّت بِطابِع الكِبرياء. هي من كبير إلى صغير. فيها تنازل من الفرّيسي – من جَهِة نَظره – وتَشريف لِلمُعلّم الجَليلي!! كَما يَبدو أن الدَعوة جَاءت وَليدة الفضول، فقد أراد الفِرّيسي أن يعرف يسوع عن قُرب فَدعاه. ولكنه لم يُقدّم له شَيئاً مِن الوَاجِب نَحو الضَيف! وتَألّم يَسوع! تألّم، لا لأنه عومِل هذه المُعاملة الجَافّة. ولا لأنه أحسّ أنه نقص شَيئاً بسبب هذه المُعاملة أو أن كرامته قد جرحت. كلا. فقد كان يسوع كبيراً لا يأبه لهذه التوافه. وكرامته ذاتية فيه لا علاقة لها بمعاملة الناس له ولكنه تألّم، تألّم لِلكِبرياء الفَارِغة عِند الفَرّيسي ولِلذِهن الضَعيف وللشخصيّة الناقِصة ولِلخطيّة الجَاثِمة تَحت ثِياب البر.

تألّم ولَكِنه سَكت كان الفَريَسي جَالِساً على رأس المَائِدة من هُنا ويَسوع على رأس المِائِدة من هُناك وقد جَلس طَارِحاً قَدميه خَلفه على عادة تِلك الأيّام. وجَلس عَدد آخر عَلى جَانبي المَائِدة من هنا ومن هُناك وبَينما كان يسوع يأكل جاءت امرأة ووقفت عند قدميه من ورائِه كانت المرأة من ذوات السيرة الرّديئة وكانت مَعروفة كَامرأة خَاطِئة ولا يَعلم سَمعان كيف دخلت المرأة إلى بَيتِه دون أن يَنتَبِه لَها. نعم إن كَثيرين يدخلون، من باب الفضول والتَطفل إلى صحن البيت. ولكن هذه المرأة مَا كان يجب أن تَدخل. ولكنها دخلت ووقفت عند قدميّ يسوع...كانت تَبكي بِدموع غَزيرة، فَاضَت من عَينيها وبلّلت بها قَدميه. ثم مسحت القَدمين بشعر رأسها نهاية في التذلل. صيّرت من شعرها الذي هو مجدها منشفة لِقَدميّ السيد. وكانت تقبّل القدمين وتدهنهما بالطيب.

كان عمل المرأة عَظيماً دلّت به على قلبها المُعترف المُحِب البَاذِل. ولكن سمعان لم يرَ ذلك. على أن السيد كان يَتمتّع بِهيبة لم يستطع الفريسي بإزائها أن يَتكلّم. ولكننا نحسّ إنه يَتكلّم وإن كُنّا لا نسمع صوت كَلامه. بل نظنّ أنه حاول أن يَخفي كلامه عن خلجات وجهه. ولو أننا وضعنا بوقاً في دَاخِله يسجّل كلام نفسه الصَامِت لِسمعناه يَقول والمقصود هنا الفريسي أي سمعان:

«لقد كُنت أظنّ أن الناصري نبي. كلا. أنا لم أظن ذلك. كثيرون يقولون أنه نبي. وكثيرون يروون عنه قِصَصاً وأحاديث ويذكرون آيات وعَجائِب. ولقد بدأ شكّي في شَخصيّته يتزعزع. ترى هل يُمكِن أن يكون نَبيّاً. لكني الآن أرى إنه ليس نَبيّاً. لَو كان هذا نبيّاً لما سمح لتلك المرأة أن تلمسه. وكيف يحتمل لمسة يدها ويدها مغموسة في ريق الشيطان... وشعرها ثعابين الجَحيم ودموعها سموم من نبع النار وقُبلاتها شر من شر الجروح. لو كان هذا نبيّاً لأحسّ بلسعات فمها ودموعها ويدها وعلم من هذه المَرأة. وما هي. «إِنَّهَا خَاطِئَةٌ!!».

كان سَمعان يَتكلّم بهذه الكَلِمات إلى نَفسِه وهو يعتقد أنها كلمات مَخبوءة في أعماق قلبه. لم يكن يخطر بباله أنه يمكن لكائن ما أن يكشف عنها. لم يكن يعلم أن يسوع هو نبي حقاً. وإنه يرى قلب سمعان كما لو كان سفراً مفتوحاً، وأنه يسمع حديث نفسه كما لو كان حَديثاً صارخاً. كان سمعان يسأل هل هو نبي. إذن لماذا لم ينفض عن جسمه تلك المرأة الخَاطِئة؟؟ وتَكلّم يَسوع أو عَلى الأصَحّ أجاب يا سمعان عِندي شَيء أقوله لَك.

وبينما كان سمعان يسأل نفسه ترى ماذا يقصد المُعلّم الجَليلي أن يقول، التفت يسوع إلى المرأة وقال لسمعان: أتنظر هذه المرأة. ونظر سمعان إلى المرأة ولا يُستبعد أنه بصق على الأرض وإنه ألقى مزموراً يطرد به شَياطينها. وبانت في عَينيّه كُل عَلامات الاحتِقار والمقت. ولكنه لَم يَتكلّم ولكن يسوع تَكلّم قال: «إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ» (لوقا 7: 44 - 46) هل تعلم لماذا فعلت هي ما فعلت وأنت قصرت؟ قَد غُفِرَت خَطاياها الكَثيرة. إنها امرأة مَعروفة في المَدينة. إنها خَاطِئة ولكن الله سامحها عن كل ذنوبها لذلك أحبّت كَثيراً. والذي يغفِر له قَليل يحب قليلاً.

ونظر بنظرة عَميقة إلى المرأة المُضطرّبة وأرسل لها من عَينِه ذلك الشُعاع النوراني الذي يَفيض بِالتَعزِيّة والرجاء وكأنه يقول لا تخافي، يا امرأة لا تَخافي، مغفورة لكِ خطاياكِ! وتذمّر الجَالِسون مع سمعان، وهم أهله وصَحبه، من هذا الذي يغفِر الخَطايا أيضاً أمّا يَسوع فَلَم يَهتَم بهم انشغل بِالمرأة وقَال لَها: «إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (لوقا 7: 50).