العودة الى الصفحة السابقة
هيرودس

هيرودس

جون نور


ما الذي صلب المسيح؟ رأينا عامل الدين، والتدين، عندما ينحرف الدين ويتحول إلى تزمت وكبرياء، فإذا به ينتج قساوة في القلب، وتحجراً في الإحساس، يؤدي إلى صلب المسيح... في حلقة سابقة رأينا عامل الدين، ممثلاً في جماعة الفريسيين... واليوم نرى عامل الدنيا، والنزعة الدنيوية، ممثلة في شخص هيرودس الملك... فما هي هذه النزعة الدنيوية؟ وكيف قادت هيرودس أن يسهم في مأساة الصليب؟

هيرودس، من الشخصيات التي تطالعنا في قصة صلب يسوع، فهو شخص يحيا دون وجود مكان لله في حياته على الإطلاق. وقد ظهر ذلك في مناسبات كثيرة، أهمها لقاؤه مع السيد المسيح في خلال الأسبوع الأخير من صلب يسوع.

هيرودس هذا هو الابن الثاني لهيرودس الكبير، وأبوه هو الذي أمر بقتل الأطفال في بيت لحم ليضمن قتل يسوع المسيح، عندما علم من المجوس بمولده، ومن رؤساء اليهود والكتبة بمكان مولده. وقد قيل عن هيرودس الابن أنه ورث كل رذائل أبيه دون أن يرث شيئاً من فضائله.

وقد حكم هيرودس من سنة 4 ق. م. إلى سنة 39 م، وبذلك تكون مدة حكمه تغطي كل حياة السيد المسيح على الأرض وتزيد.

التقى بهيروديا زوجة فيلبس أخيه، فطلق زوجته، واتخذ هيروديا زوجه له... وقد كان يوحنا المعمدان يوبخ هيرودس توبيخاً قاسياً قائلاً له: «لا يحل أن تكون لك هيروديا زوجة فيلبس أخيك» ... فأمسك هيرودس يوحنا المعمدان ووضعه في السجن... وفي يوم ميلاد هيرودس، أقام وليمة عظيمة دعا إليها عظماء البلاد وقادة الجيش وأعيان الجليل، ودخلت سالومي ابنة هيروديا «زوجة أخيه» وكان عمرها على ما يقال ست عشرة سنة ورقصت فسرت هيرودس، وفي نشوة سروره، وعدها أن يعطيها ما تطلب ولو إلى نصف المملكة، فاستشارت الصبية أمها، وأرادت أمها أن تنتهز الفرصة لتنتقم وتستريح من عدوها اللدود يوحنا المعمدان، فلقنت أبنتها أن تطلب رأس يوحنا المعمدان على طبق...

وذهل هيرودس، وحزن، لأنه كان يحترم يوحنا المعمدان، ويخافه باعتباره نبياً عظيماً.... وكان يمكن لهيرودس أن يعترف بأنه أخطأ في وعده.... وبأنه لا يملك أن يعطي حياة إنسان لفتاة مقابل رقصة، فإن حياة البشر ملك لله وحده.... ولم يكن يوحنا قد ارتكب جريمة يستحق عليها عقاب الموت في قضاء عادل.... لكن هيرودس لم يكن يهمه الله ولم يكن لله مكان في حياته على الإطلاق.... كان الإنسان هو الإله في نظر هيرودس ووضع هيرودس اعتباراً لكلمته، ووعده، وشرفه، وللحاضرين في ذلك الحفل من عظماء الناس.... فأمر بأن يُقتل يوحنا المعمدان، وتوضع رأسه على طبق، وأعطاه للصبية التي أعطته لأمها....

كان ضمير هيرودس يستيقظ، فيتصور أن يوحنا المعمدان قام من الأموات وظهر في شخص يسوع المسيح ومع ذلك فلم يكن هيرودس يريد أن يتلقى رسالة من يسوع بل إنه أراد أن يتخلص من إزعاج الضمير ويزيح يسوع من الطريق بقتله، وأخيراً جاءت الفرصة ليلتقي هيرودس مع يسوع وجهاً لوجه. كان ذلك أثناء المحاكمة أمام بيلاطس البنطي. وكان بيلاطس يحاول أن يجد وسيلة ليهرب بها من الموقف المتأزم الذي كان يواجهه. كان يعرف أن يسوع بريء، وليس فيه علة تستحقق الموت.... وكان يعرف أن رؤساء الكهنة كانوا قد أسلموه حسداً.... لكنه في نفس الوقت كان جباناً يخاف أن يغضب منه اليهود ويشتكوه لقيصر.... لذلك فعندما سمع أن يسوع من الجليل، انتهز الفرصة ليتخلص من الموقف، وأرسل يسوع إلى هيرودس، وكان هيرودس في ذلك الوقت في أورشليم...

وفي هذا اللقاء نرى موقف هيرودس من يسوع، أنه فرح جداً، ليس للرسالة الروحية التي يريد أن يتعلمها ... وليس للشخصية النقية التي يريد أن يلتقي بها ويتعلم منها – وليس ليكشف الله عن عينيه ليرى عجائب من شريعة الله – لم يأت ليشفي كما جاء المرضى... أو ليتعلم كما جاء نيقوديموس... لكنه فرح لأنه أراد أن يرى آية... معجزة تثيره، وعملاً باهراً يسليه، أراد أن يمتع بصره واستطلاعه بآية ... ولم يصنع يسوع آية، ليسلي هيرودس... ولعل هذا أبلغ رد على الذين يقولون: لماذا لا يصنع الله معجزة ليؤمن الناس؟

إن الراغبين في المعجزات اليوم لا يريدون الإيمان بل يريدون الأعمال الباهرة المثيرة... إن في الكون من آيات، وفي جسم الإنسان من عجائب، ما يجعل الكافر مؤمناً – إذا أراد أن يؤمن... ولكن أصحاب النزعة الدنيوية، لن يؤمنوا ولو رأوا مئات الآيات...

أراد هيرودس أن يصنع يسوع آية... كالساحر وعندما لم يصنع يسوع آية لهيرودس سأله أسئلة كثيرة، فلم يجبه بشيء... ذلك لأن الأسئلة لم تكن للرغبة في التعليم الحقيقي، بل كانت لمجرد الرغبة في النقاش... وتجاهل يسوع هيرودس ولم يجبه بشيء... ما أكثر الناس الواقفين أمام يسوع، لكنهم لا ينالون منه شيئاً... ذلك لأن ما يطلبونه ليس موجوداً عند يسوع...

كم هيرودس موجود بيننا لو أن هيرودس نظر إلى يسوع ليحمل إليه يسوع كلمة الله وصوت الله لحياته الشخصية... لاستطاع أن يعلن براءة يسوع، ويطلقه... لكنه عندما لم ينل من يسوع ما يريد، احتقره واستهزأ به، ورده مرة ثانية إلى بيلاطس..

هذه هي النزعة الدنيوية التي تترك الله نهائياً من حياة الإنسان، وتجعل الإنسان مركز كل شيء...

فيا من تستعدون لتذكروا صليب المسيح، وتحتفلون احتفالات تذكارية لصليبه وموته وقيامته، وجهوا نفوسكم بصراحة، ولن يستطيع غيركم أن يجيب عنكم.

هل تريدون المتعة والتسلية؟

أم تجدون الله أمامكم في كل شيء... فتكرسوا له الحياة، فكراً وقلباً، وعملاً...

يا ترى كم هيرودس بيننا في الحياة.