العودة الى الصفحة السابقة
دانيال

دانيال

«يَا دَانِيآلُ، أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمَحْبُوبُ» (دانيال 11:10)

جون نور


دانيال ومَن هو:

كانت حياة دانيال، من أوّلها إلى آخرها، حياة حافلة بالأزمات، ولقد شاء له الله أن يؤخذ وهو غضّ صغير، ربما لم يكن يتجاوز السابِعة عشرة من عمره، إلى السبي منذ السنة الأولى ليقضي في بابل عمره بأكمله هناك، أو مدة سبعين عاماً أو تزيدالاسم «دانيال» يعني «الله قاضي» ولقد عاش هذا الرجل طوال حياته على الأرض، وهو يتطلّع إلى الله القاضي العادل، وهو يتصرّف في الحياة دون أن يُبالي بِالناس، لأنه يعلم أن قضيّته ليست في يدّ بشر، بل في يد الله الذي يحكم بِعدل،.. كان من أعلى الطبقات في بِلاده ومن النسل الملكي كما هو واضِح في سفره، ونحن لا نعلم شيئاً عن أبيه وأُمه، ورُبّما كانت أم دانيال أشبه بيوكابد التي جعلت ابنها يعيش، في كل شيء داخل أسوار القصر، ولكن قلبه كان على الدوام في مكان آخر، ومن جهة أخرى كان دانيال جميل الوجه حسن المنظر، ورُبما كان كموسى أو يوسف في فِتنة المظهر.

كانت شجاعة دانيال خارِقة لِلعادة، تلك الشجاعة التي لازمته طوال حياته، والنابعة من مبادئه وتقاليده، وأن أعظم شجاعة في الحياة، أن يكون الإنسان نفسه كما يعتقد ويريد، لا أن يكون ممسوخاً في وسط الآخرين، يُحاكيهم ويُشاكلهم، ويسير على دربهم في الصواب والخطأ على حدّ سواء، فإذا خلا إلى نفسه أنكر ما فعل أو برّر قِصّته بأن ضغط الظروف أكرهه على ذلك،... كان دانيال شُجاعاً في السابِعة عشرة من عُمره وكان شُجاعاً في التسعين من العُمر، كان شُجاعاً أمام الإغراء، وكان شُجاعاً أمام التهديد والوعيد،... كان شُجاعاً وهو يرفض مائِدة الملك، وكان شُجاعاً وهو يُواجِه عطايا الملك، أو جب الأسود،... لم يتذبذب قطّ في شجاعته أو يتراجع عنها، أو يُغطيها بما يقال إنه الحِكمة أو ما أشبه من تعليلات الناس!!... كان شُجاعاً عندما وضعت أمامه أطايب الملك، وهو صغير، في وسط مِئات الشباب، مِمّن يحلمون بِمجد العالم، ومِمّن يُسرِعون إلى مُحاكاة بعضهم البعض، أو مِمّن يستطيعون أن يعتذروا أمام أنفسهم، بأنهم مُكرِهون، ولا حُريّة لهم في القول أو الاختيار كما يفعل آلاف الشباب على وجه الأرض! وكان شُجاعاً في مُواجهة بيلشاصر الملك، وهو مُمتلئ من الغضب والسخط المُقدّس.

كانت عادته الدائِمة التي لا يُمكِن أن يقلع عنها هي الصلاة ثلاث مرّات يومياً والكوى مفتوحة تِجاه أورشليم حيث هناك قلبه وعقيدته ودينه وإيمانه،... وهو لا يستطيع أن يغلق النافذة، وقد جعله الله شاهِداً، ولا مانع عنده من أن يكون شهيداً، وخير له أن يموت دون أن يجدوا فيه عِلّة إلا من جهة شريعة إلهه، من أن يعيش وقد سقطت شجاعته ومِثاليِته أمام الكِلدانيين والمسبيين على حدّ سِواء!!... لقد عاش الرجل في جاهه مُنعزلاً عن أسلوب الآخرين من القادّة،... وكان أميناً ونبيلاً في هذه العُزلة أيضاً!!... إن قِصّته على الدوام تُذكّرنا بِقول الرسول بولس: «لاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ» وكما كتب في رسالته على أهل كورنثوس (وفي رومية 2:12) «لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟ وَأَيُّ اتِّفَاق لِلْمَسِيحِ مَعَ بَلِيعَالَ... فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ: إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا. لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ، وَأَكُونَ لَكُمْ أَبًا، وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ، يَقُولُ الرَّبُّ، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ» (2كورنثوس 14:6 – 18).

ومِن هُنا نرى الرجل في العادة المُتأصّلة فيه والتي أضحت كيانه اليومي، يظهر به واضحاً لِلجميع في العِبادة ثلاث مرّات كل يوم!!... وهل لنا أن نقف هُنا، أمام صورة من أجمل الصور وأعظمها لهذا المُتعبّد وهو يبدو أمامنا في صورة المُتعبّد الوديع الذي يركع مهما عظم شأنه في حضرة الله...

وكان دانيال المُتعبّد الشاكِر، ومن العجيب أن الرجل في صلاته كان يصلي ويحمد، وهو أمام خطر جسيم،... لقد كانت له الشركة العميقة مع الله، التي علمته الحمد والشكر حتى ولو كانت عواصف الحياة القاسية تُحيط به، والزوابع تلفّه من كل جانب، لقد أدرك أمانة الله في كل سنوات سبيه وأسره، وهو لن يكون جحوداً تِجاه إله لم يتخلّ عنه قطّ طوال هذه السنين...

وإذا ذكرناه في آخر الأمر في جُبّ الأسود الجائِعة، والملك لا يستطيع – أن يرجع عن شريعة مادي وفارس التي لا تُنسخ، ولكن الله هو المُنقِذ أولاً وأخيراً ودائِماً على وجه عجيب مُعجزي، يسمو على كل فِهم أو قُدرة بشريّة.

وكما عاش يوسف رئيساً لِلوزراء مُدّة طالت إلى ثمانين عاماً مُتوالية،.. عاش دانيال في أعلى القِمم طوال مُدّة السبي بأكمله، مِمّا يشهد بِالحقيقة الواضِحة أن من يُبارِكه الله لا يستطيع أحد أن يلعنه، وأن من يحرسه الله، لا بُدّ أن يُخرجه سالِماً من جُبّ الأسود بعد أن يكممّ أفواهها، ولعلّه ذكر ما قاله إشعياء من قبل: «لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ. لاَ تَتَلَفَّتْ لأَنِّي إِلهُكَ. قَدْ أَيَّدْتُكَ وَأَعَنْتُكَ وَعَضَدْتُكَ بِيَمِينِ بِرِّي» (إشعياء 41: 10).

أجل لقد عاش الرجل المحبوب حياة امتلأت بِالتعب والألم والمشقّة والضيق، والعظمة والانتصار إلى أن جاءه الصوت الأخير المُبارك: «أَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ إِلَى النِّهَايَةِ فتَسْتَرِيحَ، وتَقُومَ لِقُرعَتِكَ فِي نِهَايَةِ الأَيَّامِ» (دانيال 13:12).