العودة الى الصفحة السابقة
سارة

سارة

«إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْمَنْظَرِ... قُولِي إِنَّكِ أُخْتِي، لِيَكُونَ لِي خَيْرٌ بِسَبَبِكِ وَتَحْيَا نَفْسِي مِنْ أَجْلِكِ» (تكوين 12: 11 و13)

جون نور


ما أقترب مخلوق أو إنسان من الله، إلا وأضحى جميلاً، وإذا كان الجمال قد أحدث هذا الأثر أو الجهد في حياة الناس، فإنه يقف من الوجهة الأخرى، وراء أقسى ما عرفه الإنسان من تجارب وخطايا وآثام وآلام ومجازر وحروب في التاريخ البشري!... ومن الغريب أن الناس تقرأ قصة سارة الجميلة، والجميلة جداً، دون أن تتلفت أو تتأمل في أثر هذا الجمال من وجهتيه القويتين في حياتها،.. وأغلب الظن أنهم يفعلون ذلك، لأن جمال سارة رغم أنه مفتاح حياتها ومحور كيانها وشخصيتها، إلا أنه دائماً يقع في الظل،.. إذ أن شخصية إبراهيم زوجها، لم تعط الناس الفرصة الكافية الكاملة، للتحديق، والتدقيق، في هذا الجمال الأنثوي الرائع!!.. ولعلنا اليوم نستطيع أن نتأمله كما جاء في القصة الكتابية من ثلاث وجهات.

سارة كانت وستبقى المثل العظيم، للمرأة الفاضلة التي تبني بيتها، بالحكمة المضاعفة، حكمة من يعمل ولا يظهر ويدفع ولا يبين، ويؤثر ولا يفتخر،.. زوجها معروف في الأبواب وكم لعبت نساء حكيمات مثل هذا الدور في كل العصور، حتى يُقال بحق خلف كل رجل عظيم امرأة عاقلة!! على أن جمال الروح أعظم من جمال البدن، والعقل عند هذه الأم العظيمة وما من شك بأن سارة يحق لها أن تقول مثل هذا القول إذ أن جمال روحها كان واضحاً من اللحظة الأولى التي خرجت فيها مع زوجها العظيم في رحلته الخالدة، إلى حيث لا يعلم إلى أين يأتي، ولا شبهة في أنها وهي تطوح بالعالم القديم خلفها، لتكون أماً لجميع الخالدين من المؤمنين، كانت تكشف عن روح من أجمل الأرواح التي عاشت على ظهر الأرض بين الناس،.. كانت سارة واحدة من أعظم الحالمات بالرؤى العظيمة، إذ عاشت سنوات طوالاً، تحلم برؤيا أمم وممالك وشعوب، تخرج من أحشائها وتبارك كل الأرض، وما من شك بأن هذه الرؤيا رسمت، أروع وأمجد مظاهر الجلال والجمال في حياتها ونفسيتها العظيمة،.... كانت سارة غنية في روحها بالإيمان بالله!!... وإبراهيم لم يكن معدماً، بل كان رجلاً واسع الثراء، غنياً جداً، على أن أغلى ما كان يملك، لم يكن متاعاً أو شيئاً، بل شخص زوجته الجميلة الحسناء، إذ كانت هي وحدها في كفة، وكل ذهبه، وفضته ومقتنياته في الكفة الأخرى،... وكان إبراهيم يخاف على زوجته، أكثر من كل ما يقتني بل أكثر من حياته هو أيضاً، ولم يكن اتفاقه مع زوجته، على أن تذكر أنها أخته في كل مكان يقصد حماية حياته هو، بل إنه قد أحبها حباً عميقاً، كان يقصد أن يعيش من أجلها كما هو ظاهر من قوله: «وتحيا نفسي من أجلك» كانت سارة في الأصل اسمها «ساراي» أو «أميرتي» وكانت أشبه بالدرة أو التاج على مفرق الرجل، كانت أميرته المحبوبة والعزيزة عليه، وكان جمالها غير عادي يثير خوفه وفزعه، كما يخاف الإنسان على اللبن النقي من أن تعلق به أوساخ أو ذرات من التراب،.. كان إبراهيم يعلم من اللحظة الأولى، أنه يسير كغريب في الأرض في كنف الله وحمايته ورعايته، وأنه لا يستطيع أن يحرس نفسه أو زوجته، دون سند من الله أو عونه أو ستره أينما أتجه أو سار أو تولى.. وكان وهو أبو المؤمنين، عليه أن يعلم أنه يسلك على الدوام بالإيمان لا بالعيان، ومن ثم كان خليقاً به وبزوجته، ألا يلجأ إلى ما اتفقا عليه من ذكر نصف الحق وليس الحق كله، بأن تذكر سارة أنها أخته، وتتحاشى أن يشير إلى أنها زوجته.

عاشت سارة في السنوات الأخيرة من عمرها منكبة على تربية إسحاق ابنها، مع إبراهيم أبيه، والبادي أن إسحاق أخذ منها الكثير، مما طبع عليه من حياة الهدوء والسلام، مما جعله أقرب إليها من أبيه، كما أن إسحاق أعطاها بمولده ومجيئه بعد تسعين عاماً من عمرها، الابتسامة التي ارتسمت على وجهها وأضاءت حياتها بأكملها، حتى أنها أسمته إسحاق أي ضحك، تعبيراً وتجسيداً للبهجة والسرور والإشراق، التي تغلغلت في حياتها، مما لم تكن عرفته واختبرته من قبل، على امتداد السنين الطويلة قبل مولده،... لقد عرفت قبل إسحاق جمال الشكل، والعقل، والروح، ولكنها بعد ميلاد ابنها، عرفت جمال الأمومة على نحو كان من العسير أن تدركه في معناه الصحيح، لو عاشت عاقراً فإذا جاءت بناتها فيما بعد، على مختلف العصور والأجيال، يرين في العقم عاراً وذلاً وهواناً مثل راحيل، وحنة، وإليصابات، وغيرهن، تبين لنا إلى أي مدى توج جمال سارة بهذا اللون البهيج العظيم، مما تفخر به المرأة، جمال الأمومة،.. على أن هذه المرأة لم تقف عند جمال الأمومة القاصرة على أسرة محدودة أو بيت، لقد تحولت من «ساراي» أميرتي إلى سارة «أم الجماهير» لقد زها نورها عن أن يلمع في مجرد بيت أو أسرة أو شعب، ليمتد إلى أحشاء الزمن، ويتغلغل في جنبات التاريخ لتضحى أم القديسين والقديسات، من بيوت وأسر وأمم وشعوب،... واتسعت هالة نورها، على نحو ربما لم تعرفه امرأة أخرى، سوى مريم العذراء، التي وُلد منها المسيح سيدنا وربنا مخلص العالم!!

على أبواب مغارة المكفيلة أودع إبراهيم ميته، ليشتري الحقل والمغارة، قبل أن يدفن جثمانها المسجى، وهل لنا أن نلقى نظرة أخيرة على هذا الجمال العظيم المتألق، الذي لم تستطع الشيخوخة أن تنال منه، بل لعلها أعطته مسحة من القداسة التي بقيت في ذهن الرسول بطرس عندما قال: «فَإِنَّهُ هكَذَا كَانَتْ قَدِيمًا النِّسَاءُ الْقِدِّيسَاتُ أَيْضًا الْمُتَوَكِّلاَتُ عَلَى اللهِ، يُزَيِّنَّ أَنْفُسَهُنَّ خَاضِعَاتٍ لِرِجَالِهِنَّ كَمَا كَانَتْ سَارَةُ تُطِيعُ إِبْرَاهِيمَ دَاعِيَةً إِيَّاهُ سَيِّدَهَا»» (1بطرس 3: 5 و6).