العودة الى الصفحة السابقة
خيانة يهوذا

خيانة يهوذا

«كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» (مرقس 21:14)

جون نور


ارجع بخيالك إلى الوراء قرابة عشرين قرناً، وتعال إلى ربوة ترتفع فوقها شجرة، ومن أحد أغصانها قد تدلت جثة إنسان! هذه كانت نهاية التلميذ الخائن الذي أسلم يسوع الى اليهود لكي يصلبوه تعالوا معي لندرس شخصية هذا الانسان من هو ولماذا عمل ما عمل. هو الوحيد بين التلاميذ الذي وُلد في اليهودية، بينما بقية التلاميذ من الجليل. ولقد كان يهود اليهودية أكثر تزمتاً وتدقيقاً في التمسك بالناموس من يهود الجليل. لأن الجليليين كانوا أكثر اختلاطاً وتمازجاً بالأمم بحكم الجوار والتجارة.

لقد اتبع المسيح بشجاعة، رغم معارضة والديه واخوته وتقاليده وديانته.. وكل شيء.

وكان مضحياً، فقد ترك أهله وبيته وأصدقاءه ومدينته، وربما ممتلكاته ومقتنياته، وسار وراء المسيح مدة ثلاث سنوات كاملة في البرد والحر، في الجوع والظمأ، في صيت ردئ وصيت حسن. وربما اضطرته الظروف إلى المبيت في العراء، أو على سفح جبل، أو في قلب سفينة في عرض البحر.

ولا بد أن السيد قد اكتشف فيه موهبة الحكمة والتدبير فأسند إليه مهمة حفظ الصندوق. أي صندوق المال.

من شفتي السيد سمع التعاليم المباركة التي غيّرت مجرى التاريخ، وجددت الملايين، وجبرت قلوب المنكسرين. وعشرته للسيد لم تكن عشرة قصيرة الأمد. فلم يسمعه في عظة عابرة ولم يلتق به لمدة ساعة أو بعض الساعة ولم يسمع منه نصيحة وقتية مثل الشاب الغني الذي أراد أن يرث الحياة الأبدية، ولم يعرفه في فرصة سريعة عابرة لقد عاش معه ثلاث سنوات كاملة، أكل معه وشرب، ونام، وسار في الطريق، وتبعه من الناصرة إلى الجلجثة.

لقد سيطرت عليه غريزة الطمع وحب المال، و«مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ» (1تيموثاوس 10:6). ونحن نقرأ تقرير البشير يوحنا عنه، «إِنَّهُ كَانَ سَارِقًا» (يوحنا 12: 6) تُرى ألم يتذكر يهوذا نصيحة السيد: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ» (لوقا 12: 15).

ومحبته للمال قادته للخيانة والغدر، فارتكب أشنع جريمة في تاريخ الإنسانية، إذ باع سيده بالمال.

وكم من مرة حاول السيد أن ينبهه ليثنيه عن قصده الإجرامي! «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ وَاحِدًا مِنْكُمْ سَيُسَلِّمُنِي!» (يوحنا 13: 21)، «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ!» (مرقس 21:14). ومع ذلك فقد كان قلبه قاسياً متحجراً لا يتأثر، فارتكب خطيته بكامل حريته وبمحض اختياره ودون أدنى تأثير من الخارج.

ألا يحدث أن يبدأ السقوط في حياتك بالكبرياء أو بالاستعلاء على سواك؟ ألا يحدث أن يمتلئ قلبك بالحسد نحو اخوتك؟ ألا يوجد ركن في قلبك تسيطر عليه شهوة منحرفة، والا تضحى أحياناً بسيدك ومحبته وحنانه ودمه المسفوك في سبيل مصالحك ورغائبك وشهواتك؟ ألا يحدث أحياناً أن تبيع سيدك بأقل من ثلاثين من الفضة... أو بنظرة رديئة، أو بشهوة عابرة؟

لقد بدأت مرارة جريمته تتكشف له. انتهت السكرة وجاءت الفكرة، واستيقظ أخيراً على حالته التعيسة ونتيجة فعلته المروعة. فرأى سيده يُساق إلى المحاكمة والجلد والهزء والعار، وأخيراً إلى الموت. رأى يديه ملطختين بالدماء. وكان ممكناً أن يقوده ذلك للخلاص، فأول خطوة في طريق الحياة الأبدية هي أن يعرف الخاطئ حقيقة أمره.

وأن لا يكتم خطيته في قلبه، بل الاعتراف بها على رؤوس الأشهاد: «أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَمًا بَرِيئًا» (متّى 27: 4). وفي اعترافه كان واضحاً ومحدوداً وجريئاً، لم ينزوِ في ركن بعيد نظير بطرس بعد سقطته الذي « فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا» (متّى 26: 75)، بل ذهب إلى رؤساء الكهنة واعترف بجرمه وأظهر ندامته. وهذه خطوة ثانية صحيحة خطاها يهوذا في طريق التوبة.

ثم حاول إصلاح خطيته بقدر ما أمكنه، فقام برد الفضة إلى الكهنة مقراً ومعلناً براءة المسيح، وبالتالي واضعاً المسؤولية على الكهنة. وهذه خطوة ثالثة طيبة، ولم تبق أمامك يا يهوذا سوى خطوة واحدة أخيرة في طريق الحياة.

هذه الخطوة هي طلب الغفران من الرب يسوع المسيح. ولو اتجه يهوذا للسيد باكياً، وطلب منه الغفران، وصرخ بانكسار: «اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ» (لوقا 18: 13)، لنال الخلاص، نظير زميله بطرس الذي سقط وأنكر سيده ثم عاد تائباً.

لكن اليأس القاتل استولى على قلبه، فأفقده الرجاء، ولم يجد أمامه طريقاً سوى الانتحار. إن الشيطان يكذب على الخاطئ كذبتين: فهو قبل الخطية يسهل له طريق السقوط فيها، وبعد الخطية يسد أمامه طريق الخروج منها. «فمضى وشنق نفسه» (متّى 27: 5). هذا هو يهوذا في حياته وفي موته، وبطول الأبدية ستظل صرخته تدوى في أعماق الجحيم: «أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُ دَمًا بَرِيئًا». لقد فتح عينيه واستيقظ، ولكنها كانت يقظة متأخرة.

أيها الإنسان، إنك أكثر جرماً وخيانة من يهوذا! فيهوذا أخطأ وخان مسيحاً لم يعلق عنه على الصليب، وأنت، الذي رسم أمامك يسوع المسيح وإياه مصلوباً، فإنك تتوجه مرة ثانية بإكليل الشوك، وتدق المسامير في يديه وقدميه، وتطعنه مرة أخرى بالحربة، وتزدرى بمحبته الفائضة، وتدوس دمه بقدميك!