العودة الى الصفحة السابقة
نوح ذو الشخصية القوية

نوح ذو الشخصية القوية

جون نور


نوح لم يكن إنساناً عاطفياً حلو الشمائل فحسب، بل كان أكثر من ذلك إنساناً «كاملاً في أجياله» والكلمة «كاملاً» تفيد توازن الشخصية وتمامها، أي أن شخصيته لم تكن تنمو في جانب على حساب جانب آخر

وبهذا المعنى يمكننا أن نقول، ونحن في أمن واطمئنان، إن نوحاً كان من أعظم رجال عصره حكمة وأصالة وفكراً، بل لعله كان من أعظم رجال التاريخ ذكاءً وصفاءً والمعية وهل يمكن أن يكون غير هذا وقد رفعه الله في التاريخ ليكون أبا البشرية كلها من بعد الطوفان!!؟ وهل يسمح الله أن يكون موروث البشر إنساناً محدود المدارك ساذج التفكير!!؟

وبهذا المعنى يمكننا أن نقول أيضاً إنه كان من أعظم رجال الأجيال وأقواهم إرادة وعزماً، بل لعل التاريخ لا يعرف شخصيات كثيرة كانت لها صلابة هذا الرجل وقوة إرادته!! كيف لا وقد كانت له الشجاعة والصلابة والقوة التي تجعله يقف في جانب، والعالم كله في جانب؟! كان عصر نوح عصراً بشعاً مريعاً اتسم بخطايا متعددة، إذ كان عصر الشهوة والمجون، العصر الذي سقط فيه أبناء الله – وهم النسل المنحدر من شيث، وليس الملائكة الذين سقطوا كما يظن البعض – تحت إغراء بنات الناس – وهن النسل المنحدر من قايين – فاتخذوا لأنفسهم منهن نساء كما قادتهم طبيعتهم الجامحة ورغبتهم المدنسة، وكان عصر التمرد والعصيان، أو العصر الذي لا يسترشد فيه الناس بفكر الله، بل كان لهم: «كل ما اختاروا» العصر الذي قيل فيه: «إِنَّ شَرَّ الإِنْسَانِ قَدْ كَثُرَ فِي الأَرْضِ، وَأَنَّ كُلَّ تَصَوُّرِ أَفْكَارِ قَلْبِهِ إِنَّمَا هُوَ شِرِّيرٌ كُلَّ يَوْمٍ» (تكوين 6: 5) وكان أيضاً عصر الظلم والطغيان، العصر الذي فيه: «امْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا» (تكوين 6: 11)، و«كَانَ فِي الأَرْضِ طُغَاةٌ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ» (تكوين 6: 4) وكان أخيراً عصر التعالي والمجد العالمي، العصر الذي كان يسعى الناس إليه وراء العظمة والسؤدد والمجد ومنهم: «الْجَبَابِرَةُ الَّذِينَ مُنْذُ الدَّهْرِ ذَوُو اسْمٍ» (تكوين 6: 4).. في هذا العصر عاش نوح، ولو أنه كان أضعف إرادة، وأسلس قيادة، لانهزم وأنهار أمام ما لا يعد ولا يحصى من التجارب والمشاكل والصعوبات التي كانت تواجهه، ولا شك، كل يوم!!.. لكن الرجل عاش، في وسط هذه الظروف القاسية المروعة، وكأنما يجيب ذات الإجابة التي أجاب بها فيما بعد القديس أثناسيوس عندما قالوا له: «إن العالم كله ضدك» فأجاب: «وأنا ضد العالم»!!.. كان نوح من الأبطال وصناع التاريخ الذين إذ يؤمنون برأي أو عقيدة أو مبدأ يقفون إلى جواره، ويعيشون له، ويموتون في سبيله، حتى ولو لم يقف إلى جوارهم أحد على وجه الإطلاق، لأنهم لا يؤمنون بغلبة الحق، يوماً ما، طال الزمان أو قصر، سواء رأوا هم هذه الغلبة، أم رأتها أجيال أخرى تأتي بعدهم!!

وهذه سمة بارزة واضحة في طبيعة هذا الرجل وأخلاقه!! وكان لا بد أن توجد فيه، ويكون عليها، وقد خالف جميع الناس الذي عاصرهم وعاش معهم، ونهج في الحياة بأسلوب يتباعد ويتباين عن أسلوبهم!! على أن صبر الرجل، يتضح بأجلى بيان في كرازته المستمرة لمن عاش بينهم مدة مائة وعشرين عاماً دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ومع ذلك لم ييأس أو يقنط أو يكل في مجهوده معهم!! وهل يمكن أن يوجد بعد ذلك بين الناس من يضارعه في الصبر والاحتمال والأناة!!؟ إذا استثنينا ولا شك ذاك الذي لم يعش بيننا صابراً فحسب، بل حمل في صبره آلام الأجيال وخطاياها في جسده على خشبة العار، ومن ثم استحق أن ينفرد وحدة بلقب ابن الإنسان، وأن يكون المثال الأول في الصبر، حتى ليمكن أن يقال: «وَالرَّبُّ يَهْدِي قُلُوبَكُمْ إِلَى مَحَبَّةِ اللهِ، وَإِلَى صَبْرِ الْمَسِيحِ» (2تسالونيكي 5:3).

ونوح هو أول وأقدم كارز حدثنا عنه الكتاب، هو يمكن أن يُدعى، من هذا القبيل، أبا الكارزين والوعاظ، وقد ذكر الرسول بطرس في معرض الحديث عنه نوع الكرازة التي كان ينادي بها إذ كان «كارزاً بالبر» والرسول بطرس إذ يخبرنا أن نوحاً وعظ الناس وأنبهم في الحديث معهم إلى درجة أنه خاف من أن يقتلوه، وهناك شيء واحد ينبغي تأكيده، وهو أن نوحاً لم يفسد وعظه بحياته كما يفعل الكثيرون من الوعاظ، إذ له هذه الشهادة طوال كرازته ووعظه أنه سار مع الله، إذ قال الرب وهو يأمره بصنع الفلك: «لأَنِّي إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَيَّ فِي هذَا الْجِيلِ» (تكوين 7: 1).

يقول المفسر هوايت إنه ربما كان لحام بن نوح أثر في إفساد رسالة أبيه إذ أنه بحياته وتصرفاته وأعماله كان يضعف من قوة تأثير هذه الرسالة على الآخرين!! ومع أننا نقر هذا الواعظ العظيم والكاتب الألمعي، إلى حد بعيد، في أنه ليس هناك ما يفسد أثر رسالة الكارز والواعظ أكثر من تصرفات بنيه وبناته وأهل بيته، إلا أننا لا نستطيع أن نبلغ هنا مبلغ الجزم في تحديد الأثر الذي تركه حام في رسالة أبيه!! وكل ما نستطيع أن نقوله هنا هو أن الناس تختلف باختلاف الأجيال في قبول الرسالة أو رفضها، والحياة الدينية موزعة بين المد والجزر باختلاف الظروف والأزمنة والأمكنة والأجواء التي تعيش فيها البشرية، وليس أدل على ذلك من قول السيد المسيح وهو يوازن بين المدن التي صنعت فيها أكثر قواته والمدن القديمة عندما قال: «وَيْلٌ لَكِ يَا كُورَزِينُ! وَيْلٌ لَكِ يَا بَيْتَ صَيْدَا! لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي صُورَ وَصَيْدَاءَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكُمَا، لَتَابَتَا قَدِيمًا فِي الْمُسُوحِ وَالرَّمَادِ.. وَأَنْتِ يَا كَفْرَنَاحُومَ الْمُرْتَفِعَةَ إِلَى السَّمَاءِ! سَتُهْبَطِينَ إِلَى الْهَاوِيَةِ. لأَنَّهُ لَوْ صُنِعَتْ فِي سَدُومَ الْقُوَّاتُ الْمَصْنُوعَةُ فِيكِ لَبَقِيَتْ إِلَى الْيَوْمِ» (متّى 11: 21 و23).. إن مأساة نوح الكارز هو أنه عاش في العصر الذي قال فيه الرب: «لاَ يَدِينُ رُوحِي فِي الإِنْسَانِ إِلَى الأَبَدِ» (تكوين 6: 3)!!