العودة الى الصفحة السابقة
بولس

بولس

«فَقَاَلَ وَهُوَ مُرْتَعِدٌ وَمُتَحَيِّرٌ: يَا رَبُّ، مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ؟» (أعمال 6:9)

جون نور


يُعد تجديد بولس نقطة تحول في تاريخه الشخصي ومرحلة هامة في تاريخ الكنيسة الرسولية، وفي تاريخ الإنسانية جمعاء، فهو أعظم ما تم بعد معجزة يوم الخمسين، فقد أتى بالنصر المسكوني للمسيحية كلها، فتغيير أقسى أعدائها ومضطهديها إلى أقوى خدامها الناجحين لا يمكن أن يكون إلا معجزة النعمة الإلهية!!... ويُعد بولس من نواح كثيرة أقدر وأعظم وأنبغ العقول، وأحزم المبدعين، وأنشط المؤسسين والمدبرين، وأبرز وأقوى الشخصيات وبالنسبة للقرن الأول، يُعد هذا الرسول – باستثناء السيد المسيح – أعظم قوة كيفت مستقبل الإمبراطورية.

كان بولس قبل ايمانه قد أوغل في الاضطهاد والتجديف والافتراء على المسيح والكنيسة، وهو ما عاش يذكره طوال حياته، ومع ذلك جاء المسيح به، إذ سمع أول ما سمع شهادة الله لحنانيا: «لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ» (أعمال 15:9).... وقول حنانيا له: «إِلهُ آبَائِنَا انْتَخَبَكَ لِتَعْلَمَ مَشِيئَتَهُ، وَتُبْصِرَ الْبَارَّ، وَتَسْمَعَ صَوْتًا مِنْ فَمِهِ» (أعمال 14:22)

كان الله قد اختار بولس منذ الأزل، وأفرزه وهو في بطن أمه،... فلنا أن نتبين كيف أعده وهو لا يدري للعمل العظيم الذي كان عليه أن يقوم به.

دخلت في حياة هذا الرسول أمور ثلاث وهي الأصالة اليهودية، والرعوية الرومانية، والبلاغة اليونانية،... لقد وُلد في طرسوس عاصمة مقاطعة كيليكية، وتقع إلى الشمال الشرقي من طرف البحر الأبيض المتوسط، وكانت بها جامعة من أشهر الجامعات في ذلك الحين، إذ كانت تقف على قدم المساواة مع جامعتي أثينا والإسكندرية. ومن الثابت أن بولس نشأ نشأة دينية متعمقة، إذ كان أبوه من أشد الفريسيين المتمسكين بتقاليد الآباء،... وكانت عادة اليهود المدققين أن يبدأوا تعليم أولادهم في الرابعة من العمر، في بيوتهم، ثم يرسلونهم إلى المجمع حتى الثالثة عشر، وهناك يتعلمون تاريخ آبائهم والتقاليد اليهودية.

كان بولس رغم جبروته العلمي، أحمق الحمقى وأجهل الجاهلين، حتى قضى في العربية ثلاث سنوات يعيد الدراسة ويجد المعرفة، ويدرك كلمة الله في النور الصحيح، وخرج على العالم والتاريخ والأجيال، بالروائع الإلهية، رسائل بولس الخالدة إلى الأبد!!... لقد اقتنع بولس بعمق الخطية، والهوة التي أخرجه منها السيد. كما أدرك بولس الحقيقة الثانية: وهي التغيير المفاجئ الذي حدث له لحظة لقائه بيسوع المسيح،..... وإذا صح ما يقوله أوغسطينوس إن تجديد بولس يرجع إلى حد كبير إلى منظر استفانوس وهو يرجم الذي لم يبرح مخيلته، أدركنا معنى القول إنه «يرفس مناخس»، إذ كان يعاني صراعاً نفسياً قاسياً، وكان «ينفث تهدداً وقتلاً»، كما ينفث الرجل من شدة الغليان....

على أبواب دمشق بلغ ذروة الصراع، كان يركض بحصانه وهو يقترب من المدينة، ولم يكن يدري أن هناك من يركض وراءه وقد عبّر عن ذلك تعبيراً دقيقاً: كما هو مذكور في رسالة فيلبي «أَدْرَكَنِي أَيْضًا الْمَسِيحُ يَسُوعُ» (فيلبي 12:3)... والتجديد في الحقيقة هو سعي المسيح وراء كل نفس بشرية، حتى يمسك بها، ويوجّه مسارها، وللسيد في ذلك أساليب لا تنتهي...قال الكتاب: «فَبَغْتَةً أَبْرَقَ حَوْلَهُ نُورٌ مِنَ السَّمَاءِ» (أعمال 3:9)... لقد ظهر له المسيح في نور أبهى من الشمس وقد رأى الذين معه النور، ولكنهم لم يروا شخص المسيح، وسمعوا الصوت، ولكنهم لم يعرفوا الكلام على أن السيد تكلم بالعبرانية، ولو لم يتكلم لبدا ما حدث مبهماً لا يقود إلى معرفة، والسيد لم يتكلم فحسب، بل أكثر من ذلك تحدث حديثاً خاصاً موجهاً إلى شاول بالذات إذ نادى «شاول» باسمه مرتين حتى لا يحدث لبس أو إبهام. وكم كان الحديث قوياً ودقيقاً ورقيقاً ورهيباً معاً، فلم يصعقه، وإن كان قد أسقطه على الأرض من فوق الجواد الذي يركبه، بحركة قوية تكشف له عن قوة سيده وعن مبلغ ضعفه هو، ومع ذلك يقول له: «لِمَاذَا تَضْطَهِدُنِي؟» (أعمال 9: 4)، وهنا يندمج المسيح مع أتباعه حتى ليبدو أن اضطهاد أصغرهم هو اضطهاد له هو ذاته كما يبدو هنا أيضاً الوضع مقلوباً إذ لا يمكن أن يكون المضطهد، إلا من كان أقوى وأقدر، وقطعاً لم يكن شاول هو الأقوى....

كان بولس في الثالثة والستين من عمره أو نحو ذلك عندما ذهب شهيداً بسيف نيرون، ويبدو أنه قضى نصف حياته أو ما يقرب من النصف بعيداً عن المسيح أو بالحري ضداً له، والنصف الآخر بعد التجديد قضاه في الخدمة التي تركت طابعها العظيم والعجيب على تاريخ العالم منذ ذلك الوقت!!.. وهل يستطيع الإنسان أن يقيم حياة هذا الرجل العظيم؟ قال بعضهم إني أفضل وجود بولس واحد في الكنيسة على ألف رجل،.. ولكن هل يوجد بين الملايين على الأرض من يضارع بولس أو يقف إلى جواره،.... وهل يتكرر بولس في التاريخ،... أن بولس لم يكن لديه الوقت ليفكر في السنين التي تمر في حياته، إذ كانت الحياة والموت على حد سواء بالنسبة له: «بَلْ بِكُلِّ مُجَاهَرَةٍ كَمَا فِي كُلِّ حِينٍ، كَذلِكَ الآنَ، يَتَعَظَّمُ الْمَسِيحُ فِي جَسَدِي، سَوَاءٌ كَانَ بِحَيَاةٍ أَمْ بِمَوْتٍ. لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ» (فيلبي 1: 20 و21) لقد خف وزن الأرض بالنسبة للرجل بل تلاشى، كما هو مذكور في رسالته إلى أهل رومية والأصحاح الرابع بعد أن صعد إلى السماء الثالثة: «وَسَمِعَ كَلِمَاتٍ لاَ يُنْطَقُ بِهَا، وَلاَ يَسُوغُ لإِنْسَانٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهَا» (2كورنثوس 4:12). «لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنَّا يَعِيشُ لِذَاتِهِ، وَلاَ أَحَدٌ يَمُوتُ لِذَاتِهِ. لأَنَّنَا إِنْ عِشْنَا فَلِلرَّبِّ نَعِيشُ، وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَمُوتُ. فَإِنْ عِشْنَا وَإِنْ مُتْنَا فَلِلرَّبِّ نَحْنُ. لأَنَّهُ لِهذَا مَاتَ الْمَسِيحُ وَقَامَ وَعَاشَ، لِكَيْ يَسُودَ عَلَى الأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ!!....» (رومية 14: 7 - 9).

هوت الفأس أو السيف، وسقط عملاق الأجيال، وعاش مثلا من أخلد الأمثال لأجمل حياة، صدحت في اللحظة الأخيرة بأغنية لم يغن مخلوق أسمى منها وأعظم: «قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا» (2تيموثاوس 4: 7 و8).