العودة الى الصفحة السابقة
بطرس

بطرس

جون نور


هو الإنسان البشري، بكل فضائله وكل نقائصه! هو المقدام الجسور، يؤمن، وينكر، ثم يتوب ويندم، وينهض من كبوته..... ومع هذا فهو مخلص كل الإخلاص في ولائه، وخدمته، ومحبته لسيده. هو ذلك الإنسان التاريخي الذي أحاطت به ظلال التقليد والأحاديث، ونسجت حولة خيوط الجدل الكنسي مدى عصور التاريخ. هو سمعان بطرس، التلميذ، والرسول، والشهيد.

«بطرس» كلمة يونانية، وتعني «صفا» ومعناه الصخر. وسمعان هو ابن يونا، وبالآرامية «باريونا»، وهي تصغير «يوحنا». سمعان بطرس من مدينة بيت صيدا، أي مدينة الصياد، ولعل هذا هو الذي حمل بطرس فيما بعد على أن يقف من الرسالة المسيحية موقفاً جامعاً لا ضيقاً، على أن هذا كله لم يمنع اليهود من أن ينعتوه وزميله يوحنا بأنهما «عَدِيمَا الْعِلْمِ وَعَامِّيَّانِ» (أعمال 4: 13) لأنهما لم يظفرا بقسط وافر، لا من الثقافة اليهودية، ولا من الثقافة اليونانية.

كان بطرس كليم التلاميذ والناطق بلسانهم. فهو الذي كان يسأل الأسئلة، وهو الذي كان يجيب عليها.....

فبطرس هو الذي أجاب عن التلاميذ يوم وجه يسوع سؤاله لكل التلاميذ «وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟ فَأَجَابَ بُطْرُسُ وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ الْمَسِيحُ!» (مرقس 29:8).

بطرس هو الذي كان، في مواقف كثيرة، وجّه الأسئلة إلى المسيح. فمرة يقول: «يَا رَبُّ، كَمْ مَرَّةً يُخْطِئُ إِلَيَّ أَخِي وَأَنَا أَغْفِرُ لَهُ؟ هَلْ إِلَى سَبْعِ مَرَّاتٍ؟» (متّى 21:18). ومرة أخرى يقول: «يَا رَبُّ، أَلَنَا تَقُولُ هذَا الْمَثَلَ أَمْ لِلْجَمِيعِ؟» (لوقا 41:12)، وأخرى يقول: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ» (مرقس 28:10).

وبطرس هو الذي يُطلب إليه مع يوحنا أن يُعد عشاء الفصح (لوقا 8:22). وهو الذي يقرُّ في جرأة وشجاعة أن يكون مخلصاً موالياً، «إِنْ شَكَّ الْجَمِيعُ فَأَنَا لاَ أَشُكُّ!» (مرقس 29:14). وفي جثسيماني هو الذي يتلقى العتاب الحزين من يسوع في صيغة سؤال: «يَا سِمْعَانُ، أَنْتَ نَائِمٌ! أَمَا قَدَرْتَ أَنْ تَسْهَرَ سَاعَةً وَاحِدَةً؟» (مرقس 37:14)

كان الرجل أي بطرس إنساناً مرهف الحس، قوي العاطفة. ويوم قال ليسوع: «اذهب عني يا رب، لأني رجل خاطئ»، كشف عن طبيعته الرقيقة الحساسة. وكان هذا شأنه أيضاً يوم قال غاضباً في قيصرية فيلبي «حَاشَاكَ يَا رَبُّ! لاَ يَكُونُ لَكَ هذَا!» (متّى 16: 22). كانت عواطفه متفجرة في أوقات المرح والفرح، ولكنها كانت متفجرة أيضاً في ساعات الظلمة الكئيبة، فيوم خرج تحت جنح الظلام بعد ان أنكر يسوع ذليلا مهموماً، ليبكي في خلوته «بكاء» مراً، كانت عاطفته الدافقة في أشد ثوراتها.

ثم كان بطرس شديد العزم، قوي الإرادة. وفي بعض المواقف نراه غير ذلك. ولكن سيرته بصفة عامة تثبت قوة إرادته. فقد ترك كل شيء وتبع يسوع. وقفز إلى الماء ليمشي نحو سيده. وتجرأ على أن ينتهر سيده علانية أمام زملائه. واستلَّ سيفه ليضرب عبد رئيس الكهنة. ولا يخفي أن قوة الإرادة قد تُستخدم أحياناً في أوضاع خاطئة.

في قيصرية فيلبي يسأل المسيح تلاميذه: «مَنْ يَقُولُ النَّاسُ إِنِّي أَنَا... وَأَنْتُمْ، مَنْ تَقُولُونَ إِنِّي أَنَا؟». وهنا ينبري بطرس كليم الجماعة ويجيب: «أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!». وقد كان لهذا الجواب أثره الطيّب في نفس السيد، فامتدح تلميذه قائلاً: «طُوبَى لَكَ يَا سِمْعَانُ بْنَ يُونَا، إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ، لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. وَأَنَا أَقُولُ لَكَ أَيْضًا: أَنْتَ بُطْرُسُ، وَعَلَى هذِهِ الصَّخْرَةِ أَبْني كَنِيسَتِي، وَأَبْوَابُ الْجَحِيمِ لَنْ تَقْوَى عَلَيْهَا» (متّى 16: 13-18).

نسمع سيده يقول له: «سِمْعَانُ، سِمْعَانُ، هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ! وَلكِنِّي طَلَبْتُ مِنْ أَجْلِكَ لِكَيْ لاَ يَفْنَى إِيمَانُكَ... إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك تنكرني ثلاث مرات» (لوقا 22: 31 و32 و34).

وإن صمتاً رهيباً ليستولي على النفس حين نفكر فيما حدث. وذلك لأن يسوع كان قد أُخذ إلى قاعة المحاكمة، وبقي بطرس خارجاً، حتى أدخله يوحنا إلى الداخل. وهناك نسمعه ينكر سيدة ثلاث مرات بإيمان مغلظة: «إِنِّي لَسْتُ أَعْرِفُ الرَّجُلَ!» (متّى 26: 72).

وكان لتلك «النظرة» أثرها «فَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ وَبَكَى بُكَاءً مُرًّا» (متّى 26: 75)، وقد صدقت قولة السيد، لأن هذه السقطة قد حطمت قلب بطرس، وكشفت خباياه وصفاته، وانفصل الإنسان القديم عن الجديد، وبعد الغربلة بقيت الحنطة وذرِّى القش في الهواء، وأُنتزع سمعان بن يونا المغرور، المعتد بذاته، المندفع، المتهور، من بطرس الصخرة، الرسول الأمين، الشجاع، الباسل.

بعد هذه السقطة يأخذه يوحنا إلى داره، إنساناً محطماً، مضني القلب. ثمُ يُصلب سيده، ويعقب الصليب فرحة القيامة. وإن براعة الكاتب، مهما أوتيت من قوة البراعة، لن تقدر أن تصوِّر حالة بطرس في تلك الساعات القاتمة التي انقضَّت بين مساء الجمعة وصباح الأحد..... ولا يسعنا هنا إلا أن نسدل الستار على هذا المشهد رهبة وتهيباً.

على أنه في صباح القيامة يتلقى التلميذ نبأ القيامة في رسالة خاصة له من الرب يسوع: «اذْهَبْنَ وَقُلْنَ لِتَلاَمِيذِهِ وَلِبُطْرُسَ» (مرقس 16: 7). وقد خصَّ بطرس بهذا النبأ، إما لتوكيد العفو عنه، وإما لأن ربنا خشي أن يفصله التلاميذ بعد إنكاره، فذكر اسمه ذكراً خاصاً.

حسبنا أن نلقي إلي بطرس في يوم الخمسين لنرى كيف انسجمت تلك الشخصية المبعثرة، وتجمعت عناصرها في ولاء مطلق للمسيح، تواجه الجموع الهائجة بشجاعة نادرة، ويشرح لهم حقائق حياة ربه وموته وقيامته، بأسلوب لا يباري في جلائه وقوته...

وفي حياته كرسول، نراه إنساناً قوياً في زعامته وفي جهاده، قد صُهر ولاؤه، فغدا خالصاً كالذهب الإبريز، واستنار عقله فأضحى يبصر وراء المنظور، وصقلت عاطفته فخضعت لربه التي أسرها، واشتدت إرادته فساقته إلى شرف الاستشهاد.