العودة الى الصفحة السابقة
المرأة الشونمية

المرأة الشونمية

جون نور


سأتكلم في هذه الحلقة من أسماء وأحدث عن امرأة جاء ذكرها في الكتاب المقدس وتُدعى المرأة الشونمية. من هي هذه الشونمية؟

لم يذكر الوحي لنا اسم المرأة، ولا نعلم سوى أنها من قرية شونم، والتي كانت تقع على بعد 75 كلم تقريبا إلى الشمال من أورشليم، وإلى 10 كلم إلى الجنوب من المدينة التي عُرفت فيما بعد بالناصرة والتي عاش فيها المسيح مخلص العالم، ومع أننا لا نعرف الكثير عن حياة هذه المرأة، إلا أننا نعلم أنها كانت من الطبقة المتوسطة الغنية، وأن بيتها كان من البيوت الظاهرة في القرية، بل وربما أغناها وأيسرها، وأن لقمة العيش كانت سهلة وميسورة، وأنها كانت تملك أرضاً، تدر عليها الوفير من العيش والحياة، وأنها يوم اضطرت إلى الهجرة لمجاعة طارئة رد الملك لها أرضها المغتصبة، والحياة كانت هادئة وطيبة لهذه المرأة، حتى أن النبي أليشع عندما سألها عما إذا كان يعوزها شيء، ردت بأنها ساكنة في وسط شعبها، لا تقلق أحداً، ولا أحد يتعرض لها بالإقلاق أو المضايقات أو المتاعب..

وإذا كانت الشونمية، توصف في المعنى العام بالمرأة العظيمة إلا أن مظاهر عظمتها قد ظهرت على وجه الخصوص في بعض المواقف المؤثرة البطولية في عرض حياتها وسيرتها، ومع أن المرأة الشونمية كان لها الكثير، لتشكر الله عليه، وتغني بالحمد لجلاله، إلا أنها رغم ذلك كانت محرومة من أغلى ما كانت تحن إليه، بل إن هذا الحرمان كان يصور في كثير من الأوضاع والصور، كغضب الله أو قسوته أو شدته، عندما تكون المرأة عاقراً لا تنجب أو تلد، ولعلنا نذكر المذلة التي كانت تفيض بها مشاعرها من هذا القبيل، ولا يمكن أن ننسى في هذا المجال سارة ورفقة وراحيل وحنة وغيرهن من النساء،.. ولعل الشونمية التي ظلت سنوات كثيرة بلا ابن، قد بكت مرات بلا عدد أو حصر وهي أمام الله في الصلاة، أو في عزلتها من الناس، أو ربما أمامهم، وهي تنشد الولد أو تحن إليه،... ولكنها مع هذا كله لم يعرف منها أو عنها قط حياة التذمر أو التمرد أو الشكوى أمام الله أو الناس!!..

لقد كانت في حرمانها المرأة التقية الزكية الإحساس المفعمة بالتسليم والسكينة والرضا لقضاء الله وأمره.

ولعل المظهر الثاني لعظمة هذه المرأة كانت روح الخدمة التي تتملكها، دون أدنى تفكير في رد أو جزاء بشري، لقد خدمت النبي اليشع وتعبت في خدمته، على النحو الذي أثار الرجل وحرك مشاعره، فناداها، يطلب إليها أن يرد بعض المعروف مقابل ما سبب لها من انزعاج واهتمام ومتاعب، ويستجيب الله سؤل قلبها فيكون لها الولد الذي قرت به عينها.

على أن هذه المرأة تبدو في أروع صور العظمة عندما يموت ولدها الوحيد، قرة عينها، وبهجة قلبها، والذي جا بعدما ذكرنا من الحرمان القاسي لسنوات متعددة طويلة، والذي عاش سنوات بلغ فيها مرتبة الصبى، التي تجعله يخرج من البيت ويذهب لأبيه في الحقل، أو يجري هنا وهناك كما يجري سائر الأولاد اللاعبين الضاحكين مثله وفي سنه،.. وقد جاءت الضربة مفاجئة وغير متوقعة إذ كانت ضربة شمس وهو عند أبيه في الحقل، وكانت مسرعة وقاسية ومذهلة، فما أسرع ما يصل الصبي إلى أمه، ويموت قرب الظهيرة في حجرها،.. وهنا يقف الإنسان أمام مشهد من أدق وأقسى المشاهد التي يمكن أن يراها المرء في حياة الناس، كيف تواجه المرأة الكارثة وتتصرف إزاءها!!؟.. لقد تحولت في دقائق ولحظات إلى أعظم صورة يمكن أن نتصورها من العظمة في مواجهة الفاجعة والآلام!!... ومع أن المرأة في العادة لا تتصرف بمفردها في مثل هذه المواقف التي تهزم أصلب الأعواد وأشجع القلوب، إلا أنها مع ذلك حرصت على ألا يعلم زوجها شيئاً عن الأمر، إذ قصدت أن تلوذ برجل الله والذي لم يكن في بيتها بل كان في الكرمل على بعد خمسة عشر كيلو متراً على الأقل، وإذ يستفسر الزوج عن سر ذهابها تجيب بكلمة واحدة: سلام.. وعندما تقترب من النبي، ويفزع إذ يراها مسرعة إليه فيرسل جيحزي خادمه بسؤال واحد: «أَسَلاَمٌ لَكِ؟ أَسَلاَمٌ لِزَوْجِكِ؟ أَسَلاَمٌ لِلْوَلَدِ؟ فَقَالَتْ: سَلاَمٌ» (2ملوك 4: 26) لقد آمنت أن الولد الذي جاء بمعجزة، سينهض من الموت ويقوم أيضاً بمعجزة،.. وكان لها ما أرادت وأعاد الله لها الصبي بمعجزة وقد حول هذا الإيمان نارها الملتهبة سلاماً وعذابها الذي لا يوصف هدوء وسكينة، لا يمكن أن تكون من صنع الإنسان أو من قدرة ذاتية عنده، بل من روح الله وشخصه المبارك الذي لا يترك المؤمن.

لقد قدمت المرأة خدمتها وترحيبها وعطاياها تحت إحساسها العميق، بأن هذا ليس من واجبها فحسب بل هو امتيازها الأعظم أيضاً، ورأى الله أن المرأة أقرضته وأعطته وهو لا يقبل أن يكون مديوناً لأحد،.. وهو إذ يعطي إنما يعطي أضعافاً مضاعفة لا يمكن أن توازن بما يقبل أو يأخذ، ألم يقل السيد: «مَنْ يَقْبَلُ نَبِيًّا بِاسْمِ نَبِيٍّ فَأَجْرَ نَبِيٍّ يَأْخُذُ، وَمَنْ يَقْبَلُ بَارًّا بِاسْمِ بَارّ فَأَجْرَ بَارّ يَأْخُذُ، وَمَنْ سَقَى أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ كَأْسَ مَاءٍ بَارِدٍ فَقَطْ بِاسْمِ تِلْمِيذٍ، فَالْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّهُ لاَ يُضِيعُ أَجْرَهُ» (متّى 10: 41 و42).. وهل ضاع أجر المرأة، ألم تأخذ الولد، ولم تأخذه مرة واحدة في الحياة، بل أخذته مرتين!!؟.. وألم تأخذ خيراً سابقاً ولاحقاً لما قدمت لرجل الله من ضيافة أو كرم، عندما فاض عليها الله بالخيرات الكثيرة في بيتها أيتها الشونمية العظيمة!!.. هل يتعلم الناس، وهم يبحثون عن العظمة، العظمة تكون أصلا موجودة في الحياة العادية وفي السماحة والجمال والدعة والخدمة بينهم، قبل أن تكون في طلب الخوارق والعجائب والمعجزات، والله على استعداد أن يعطي هذه وتلك، لمن يعيش ويحيا كما عاشت وحيت.