العودة الى الصفحة السابقة
الأب وابنه في الوادي

الأب وابنه في الوادي

(مرقس 9: 14 - 29)

جون نور


«14 وَلَمَّا جَاءَ إِلَى التَّلاَمِيذِ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. 15 وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ. 16 فَسَأَلَ الْكَتَبَةَ: «بِمَاذَا تُحَاوِرُونَهُمْ؟» 17 فَأَجَابَ وَاحِدٌ مِنَ الْجَمْعِ وَقَالَ :«يَا مُعَلِّمُ، قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكَ ابْنِي بِهِ رُوحٌ أَخْرَسُ، 18 وَحَيْثُمَا أَدْرَكَهُ يُمَزِّقْهُ فَيُزْبِدُ وَيَصِرُّ بِأَسْنَانِهِ وَيَيْبَسُ. فَقُلْتُ لِتَلاَمِيذِكَ أَنْ يُخْرِجُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا». 19 فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ، إِلَى مَتَى أَكُونُ مَعَكُمْ؟ إِلَى مَتَى أَحْتَمِلُكُمْ؟ قَدِّمُوهُ إِلَيَّ!». 20 فَقَدَّمُوهُ إِلَيْهِ. فَلَمَّا رَآهُ لِلْوَقْتِ صَرَعَهُ الرُّوحُ، فَوَقَعَ عَلَى الأَرْضِ يَتَمَرَّغُ وَيُزْبِدُ. 21 فَسَأَلَ أَبَاهُ: «كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟» فَقَالَ: «مُنْذُ صِبَاهُ. 22 وَكَثِيرًا مَا أَلْقَاهُ فِي النَّارِ وَفِي الْمَاءِ لِيُهْلِكَهُ. لكِنْ إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا». 23 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». 24 فَلِلْوَقْتِ صَرَخَ أَبُو الْوَلَدِ بِدُمُوعٍ وَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي». 25 فَلَمَّا رَأَى يَسُوعُ أَنَّ الْجَمْعَ يَتَرَاكَضُونَ، انْتَهَرَ الرُّوحَ النَّجِسَ قَائِلاً لَهُ: «أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ، أَنَا آمُرُكَ: اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا!» 26 فَصَرَخَ وَصَرَعَهُ شَدِيدًا وَخَرَجَ. فَصَارَ كَمَيْتٍ، حَتَّى قَالَ كَثِيرُونَ: «إِنَّهُ مَاتَ!». 27 فَأَمْسَكَهُ يَسُوعُ بِيَدِهِ وَأَقَامَهُ، فَقَامَ. 28 وَلَمَّا دَخَلَ بَيْتًا سَأَلَهُ تَلاَمِيذُهُ عَلَى انْفِرَادٍ: «لِمَاذَا لَمْ نَقْدِرْ نَحْنُ أَنْ نُخْرِجَهُ؟» 29 فَقَالَ لَهُمْ: «هذَا الْجِنْسُ لاَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَيْءٍ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ».

تقدّم أب الى يسوع وقد أعيته الحيلة في شفاء ابنه بعدما نفذت كل محاولاته لمعونته. ونستخلص من سياق القصة أنه كان مستعداً أن يضحي حتى بحياته في سبيل خلاص ابنه وحريته من ذلك الجنون الذي تملكه، ولكنه عجز أيضاً في كل محاولاته. قصة تصور لنا البشرية العاجزة المهزومة.

دوّن البشيرون الأولون الثلاثة هذه القصة. ويهمنا أن نلاحظ بأن ثلاثتهم وضعوها في المكان عينه، في خدمة ربنا يسوع. ونحن نعلم أن وضع قصص الإنجيل في ترتيب تاريخي ليس بالأمر السهل، وخاصة لأن كل واحد من البشيرين كان يكتب بطريقته الخاصة وله وجهته الخاصة التي يرمي إليها. فمتّى كان يريد أن يظهر المسيح كملك، ولوقا أراد أن يظهره كابن الإنسان مخلص العالم، ولذلك فكل منهما كان يضع القصة في المكان الذي يوافق الفكرة التي أمامه دون اعتبار لوضعها التاريخي. ولكن في هذه القصة نرى البشيرين الثلاثة يضعونها مرتبطة بقصة التجلّي. ويجب أن نتذكر هذا في دارستنا لهذه القصة.

نزل يسوع من جبل التجلي ومعه الثلاثة المقربين من تلاميذه. «رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا حَوْلَهُمْ وَكَتَبَةً يُحَاوِرُونَهُمْ. وَلِلْوَقْتِ كُلُّ الْجَمْعِ لَمَّا رَأَوْهُ تَحَيَّرُوا، وَرَكَضُوا وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ» (مرقس 9: 14 و15). وكان السبب لحيرة الجمع هو مظهر يسوع غير العادي. ونقرأ عن موسى أنه لما نزل من على الجبل كان وجهه يلمع وهو لا يعلم، فكان مظهره غير عادي. والمعنى الحقيقي للكلمة «تَحَيَّرُوا» لا يحمل معه الدهشة، بل بالحري الخوف الذي ينتاب الإنسان عندما يرى شيئاً خارقاً للعادة. وعليه فحينما رأى الجمع يسوع نازلاً من جبل التجلي تحيروا. ولا بد أن مظهر يسوع كان يحمل معه شيئاً من اللمعان الذي غمره وهو على الجبل.

دعونا نتأمل قليلاً في حالة ذلك الرجل الذي أحضر ابنه للتلاميذ. وأول ما يسترعي التفاتنا، آلامه التي كان يعاني منها. ويخبرنا لوقا أن الرجل أشار إلى ابنه قائلاً: «إِنَّهُ وَحِيدٌ لِي» (لوقا 9: 38). وكان يعتري الرجل شعور بالخيبة، لأنه أحضر ابنه للتلاميذ ولكنهم لم يقدروا أن يشفوه. وواضح أن الرجل أحضر ابنه إلى يسوع، ولما لم يجده طلب من تلاميذه أن يساعدوه، فلم يستطيعوا. لذلك يقول الرجل ليسوع «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا».

وقد تسرّب الخوف إلى قلب الرجل بسبب فشل التلاميذ في شفاء ابنه. وربما أخذ يتساءل مع نفسه: هل ما سمعته عن يسوع وعن تلاميذ يسوع غير صحيح؟ وهل فقد يسوع قوته وسلطانه؟ ولذلك يقول الرجل ليسوع «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ». وكان موقف الرجل هو موقف التوسل مع الأمل الذي يكافح مع الخوف.

وعند إجابة يسوع: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ» صرخ قائلاً: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي».

وهكذا نرى الرجل متألماً، يائساً في وسط أحزانه.

ثم يتحول طبيبنا الأعظم إلى الولد ويسأل أباه «كَمْ مِنَ الزَّمَانِ مُنْذُ أَصَابَهُ هذَا؟». ولا بد أن يسوع لم يكن في حاجة إلى هذا السؤال، فلا بد أنه عرف كل شيء عن الولد. ولكن يسوع قصد أن يوضح الموقف بالنسبة لسوء حالة الولد. وأجاب أبو الولد «مُنْذُ صِبَاهُ». ومن ذلك نستنتج أن ما أصاب هذا الولد من روح شريرة ومن النتائج المزعجة لم يكن نتيجة خطيته هو. وإذاً فهذا الولد كان يقاسي آلاماً وعذاباً عقلياً وجسدياً. وذلك لم يكن نتيجة خطية ارتكبها.

وإذ يواجه يسوع مريضه ويعرف من أبيه أن ابنه هذا يقاسى العذاب بسبب الروح الشرير، منذ صباه، ويصرخ إلى يسوع قائلاً: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ شَيْئًا فَتَحَنَّنْ عَلَيْنَا وَأَعِنَّا»، أجابه يسوع قائلاً: «إِنْ كُنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُؤْمِنَ. كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ».

وهنا يعلن يسوع الحقيقة الأساسية وهي: لماذا كان كل شيء مستطاعاً له بينما لم يكن مستطاعاً للآخرين. إن مبدأ الاستطاعة في هذا الكون هو الإيمان الكامل في الله.

في بدء هذه القصة قال يسوع: «أَيُّهَا الْجِيلُ غَيْرُ الْمُؤْمِنِ». والآن يقول: «كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ لِلْمُؤْمِنِ». ولأن يسوع نفسه آمن بالله بكل معنى الكلمة، فلم يكن عنده أي شك ولا فشل ولا تعثر ولا تقصير، لأنه كان متصلاً بالقوة القادرة. والحقيقة التي يجب أن نتذكرها أن الله أجرى كل المعجزات والعجائب على يدي يسوع بسبب إيمانه الكامل، وهذا الروح الشرير الذي تسلط على الولد أخرجه منه يسوع بقوة الله العاملة في ابنه الذي كان كل شيء مستطاعاً له لأجل إيمانه الكامل.

وهنا صرخ أبو الولد قائلاً: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ، فَأَعِنْ عَدَمَ إِيمَانِي»، لأنه عرف أن إيمانه ناقص. وكان جواب يسوع على هذا عملاً مباشراً، فتحوّل إلى الولد وأخرج منه الروح النجس. وهكذا فعلت كلمة السلطان ما عجز عنه أبو الولد والتلاميذ والكتبة المنتقدون.

ثم مدّ يسوع يده وأمسك الولد وسلَّمه إلى أبيه. وأخيراً فإن هذه الحادثة ليست مجرد واقعة تاريخية، ولكنها كشف وإعلان لاختبار قوة الرب الكاملة. وهنا نرى يسوع الإنسان الكامل الذي وصل إلى ملء كمال البشرية، ولكنه لم يستخدم هذا الكمال كامتياز شخصي، ولكنه أخلى نفسه وأنكرها وثبّت وجهه نحو الصليب. وهنا سرّ قوة يسوع الأبدي. إنه القدوس الذي بلا خطية، من أجل ذلك هبنا أيها الكامل أن نستمد منك قوة الكمال والطهارة التي تتغلب على الشر، وقوة الإيمان العامل بالمحبة حتى نغلب العالم «وَهذِهِ هِيَ الْغَلَبَةُ الَّتِي تَغْلِبُ الْعَالَمَ: إِيمَانُنَا» (1يوحنا 5: 4).