العودة الى الصفحة السابقة
قصة الميلاد .. رسالة سلام

قصة الميلاد .. رسالة سلام

جون نور


قصة الميلاد، هي رسالة السلام الذي ينبثق من المودة والمحبة. وأقصد بذلك المودة نحو الغير ومحبة الآخرين. والله قد أقام لنا في الميلاد نموذجاً، لأنه أحب العالم فأعطى وفيراً. أحبه فبذل من أجله كثيراً. وهذه المحبة التي تنسى ذاتها هي مصدر السلام الوحيد. وما أشد افتقارنا في هذا العصر إلى السلام في داخلنا ليهدئ الأعصاب المضطربة، والمخاوف الثائرة، السلام في علاقاتنا مع الآخرين، والسلام في العالم. ونحن نلجأ إلى أساليب شتى لتحقيق هذا السلام المنشود - وليس ثمة إلا قاعدة واحدة لبلوغ هذا الهدف. وأقصد بها نشيد الملائكة: «الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ» (لوقا 2: 14) . نعم على الأرض السلام، لأهل السلام والمودة والمحبة. وبغير هذا لن يكون على الأرض سلام.

إن الميلاد ومضة ناصعة من النور الباهر، كشفت عن رؤيا جديدة، كان العالم في أشد الافتقار إليها، فقد كانت في ذلك الزمن كثير من الهياكل الحجرية الضخمة القائمة فوق الربى والتلال، ولكن الإنجيل الكريم يقول: إن أجسادنا هياكل الله الحي. الله فينا!

ويُقال إن تسع عشرة من الحضارات العشرين التي شهدها العالم انهارت وفنيت لأنها ميزت بين الناس في محسوبية صارخة، ولم تفطن إلى قدر الإنسان البشري، بغض النظر عن جنسه أو لونه أو مكانته الاجتماعية. ولكن قصة الميلاد تحدثنا بأن لكل فرد من البشر قدراً وكرامة، فهو أحد الذين جاء المسيح من أجلهم، وأحبهم والذين يسكن الله فيهم.

فاين نحن من المسيح وتعاليمه اليوم..؟ كل حكومات العالم تعنى بحفظ وثائقها وأوراقها في أقبية من الصلب لا تمتد إليها يد التخريب والتدمير... ويعنى كل المعلمين والساسة بحفظ أقوالهم للأجيال القادمة بشتى الوسائل...

أما ذلك المعلم الأعظم فقد وثق، حيث لا الزمن ولا السوس ولا الصدأ، ولا يد الإنسان المخربة، تقدر أن تمتد بسوء إلى أقواله. لأنه علم أن الأرض والسماء تزولان ولكن كلامه لا يزول بل تبقى أقواله خالدة على الزمن، لأن فيها الحق والحياة.

نعم هذا هو يسوع المعلم الأعظم الذي نحتفل بعيده اليوم هو ذاك الذي لم يسطر مخطوطاً، ولم يكتب نصوصاً، ولم يصنف كتاباً، ولم يبعث برسالة، ولم يخط على الرق لفظة، ولم ينقش على الحجر عبارة. بل قد غرس بذور أقواله في عقول وقلوب وضمائر من اتبعوه. إنه هو النور لأبصارنا، والذروة العليا المتسامية لأفكارنا وخلجات قلوبنا، والأفق البعيد البعيد لآمالنا،. وهيهات أن نبلغه!

كانت تعاليمه فريدة في ذاتها، لا مثيل لها لأنه قرن تعاليمه بنفسه. ذلك لأن تعاليمه لم تكن مقتصرة على الأقوال التي نطق بها، بل تضمنت تعاليمه صفاته المعصومة عن الخطأ، وأعمال الرحمة والشفاء التي أتاها. لقد علم على مقتضى ما عاش به عملاً، وما انفرجت عنه شفتاه قولاً...

غريب هذا المعلم فهو لم يقف في قاعة من قاعات المحاضرات، ولم تكن له فصول ومقررات. على منبر لم يقف، ولم يقسم مواعظه إلى أبواب وأقسام عامة بل علم حيثما، اتفق وأينما وجد خطاة ومتألمين.

كانت تعاليمه من الحياة للحياة. لذلك علّم عند البئر في ساعة الظهيرة، ليعين امرأة خاطئة كانت في نزاع مع زوجها الخامس! وعلّم فوق الجبل، وعلى سطوح المنازل في الليل، وتحت ظلال أشجار الزيتون في البساتين، وفي الطرقات الضيقة بين حقول الحنطة، ومن فوق سفينة صياد، ووسط زنابق الحقل التي رصعت مروج فلسطين وسهولها.

علّم عن الخلود عند قبر مفتوح، يوم أعاد أخاً ميتاً عزيزاً على أختيه المفجوعتين.

وعلّم عن شفقة الله ورعايته يوم شهد عصفوراً صغيراً يسقط على تراب الأرض في طريق عام.

وعلّم عن الإيمان والاتكال على الله من مؤخرة سفينة وسط عاصفة عاتية. وعلّم عن العطف والحنان بدموعه الساخنة التي سكبها يوم ألقى نظرة الوادع على أبراج وقباب المدينة التي رام خلاصها.

وكانت له طريقته الخاصة في التعليم فلم يجد مساساً بكرامته في أن يهبط إلى أقل مستوى في البساطة والسذاجة. ولم يخشَ أبداً أن يمثل الحق بالأشياء العادية والأوضاع المألوفة في حياة الناس. فلقد تكلم في منتهى البساطة، وفي ذروة من السمو، عن رغيف الخبز، وكأس الماء البارد، وقطعة النقود المفقودة، وحبة الخردل الصغيرة، والخميرة في عجين المرأة، والخروف الضال، والكرمة وأغصانها، والابن الضال، والطريق الضيق، وثعالب الأرض وطيور السماء، وأزهار الحقل، والمصابيح.. بل قد استخدم أشياء أخرى أبسط من هذه في تعاليمه مثل ثقب الإبرة، والشوك، والحجارة.

ومن الخواص البارزة التي امتازت بها تعاليمه عن سواه أنه جسّمها في ذاته وعبّر عنها مجلوة صافية في حياته فحين قال: «أَحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا» (1بطرس 1: 22) أردف هذه العبارة بقوله: «كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا» (يوحنا 13: 34). وحين تكلم عن التواضع، مثله عملياً في تنازله وغسل أرجل تلاميذه.

في هذه كلها توجد قصة الميلاد: ميلاد التواضع وميلاد السمو عن مباهج العيد الزائلة فمن يعيش الميلاد الحقيقي يجب ان يحيا في خطوات صاحب العيد وهو يحيا فيه.