العودة الى الصفحة السابقة
نوح - الجزء التاني

نوح - الجزء التاني

«اِصْنَعْ لِنَفْسِكَ فُلْكًا» (تكوين 14:6).

جون نور


موضوع حديثنا في هذه الحلقة عن شخصية مميزه في الكتاب المقدس وهي شخصية نوح قد لا يعرف الكثيرون أن قصة نوح من أجمل القصص الكتابية وأعمقها ، قصة ذلك الإنسان الذي ظل يكرز وينادي للناس بالتوبة، دون ملل، مئة وعشرين عاماً، دون أن يكسب منهم فرداً واحداً لله، ما خلا بيته!! قصة الفرق الكبير بين إيمان نوح وشجاعته وصلابته وصبره وكفاحه في مواجهة عالم شرير آثم، وإيمانه هو وصبره وجهاده، في عالم مهما يكن شره.

في الواقع أن هذه القصة تتحدث عن أول واعظ وكارز حدثنا عنه الكتاب، بل لعلها من أمتع وأجمل وأقوى القصص التي تتحدث عن رجل لم يكن من صناع التاريخ فحسب، بل كان هو بذاته نقطة بدء جديدة، في التاريخ، والحياة البشرية!!.. ومن يكون إذاً هذا الرجل العجيب!!؟ وما كرازته!!؟ وفلكه!!؟ وميثاق الله معه!!؟ هذا ما أرجو أن نضعه أمامنا ونحن نتناول شخصيته العظيمة!!

لعلنا نستطيع أن ندرس الرجل، ونتفهم طباعه وصفاته وأخلاقه في هدوء وجلال، إذا أتيح لنا أن نتتبعه من الداخل إلى الخارج، أو من علاقته مع الله في السريرة والنفس، إلى علاقته مع البيت، إلى علاقته مع المجتمع الخارجي، في العالم الذي يحيط به، ويبدو نوح في هذه جميعها وقد اتسم بالخصال التالية:

«كَانَ نُوحٌ رَجُلاً بَارًّا... وَسَارَ نُوحٌ مَعَ اللهِ» (تكوين 6: 9) فيقول الله عنه في الكتاب: «لأَنِّي إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَيَّ فِي هذَا الْجِيلِ» (تكوين 7: 1) والبر قبل كل شيء، هو الموقف البريء، غير المدان، من الله، أو في لغة أخرى، هو الموقف السليم، من الوجهة القانونية، إزاء حق الله وبره وعدالته وقداسته، ولكن كيف يتاح للإنسان أن يقف هذا الموقف، والكتاب يشهد: «أَنَّهُ لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يَفْهَمُ. لَيْسَ مَنْ يَطْلُبُ اللهَ. الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية 3: 10 - 12). لا سبيل لنا إلا بالبر النيابي: «بِرُّ اللهِ بِالإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، إِلَى كُلِّ وَعَلَى كُلِّ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. لأَنَّهُ لاَ فَرْقَ. إإِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ، مُتَبَرِّرِينَ مَجَّانًا بِنِعْمَتِهِ بِالْفِدَاءِ الَّذِي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً بِالإِيمَانِ بِدَمِهِ، لإِظْهَارِ بِرِّهِ، مِنْ أَجْلِ الصَّفْحِ عَنِ الْخَطَايَا السَّالِفَةِ بِإِمْهَالِ اللهِ. لإِظْهَارِ بِرِّهِ فِي الزَّمَانِ الْحَاضِرِ، لِيَكُونَ بَارًّا وَيُبَرِّرَ مَنْ هُوَ مِنَ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ» (رومية 3: 22 - 26) وقد كان نوح من المؤمنين بالذبائح التي ترمز إلى هذا الفداء، وهذه الكفارة، وما من شك بأنه درج على تقديم هذه الذبائح كما كان يفعل آدم، وهابيل، وشيث، وأخنوخ، وموسى، وهارون وداود وسائر المؤمنين قبل الصليب!! وما من شك بأنه تعلم من الله كغيره من الأقدمين الذين جاءوا قبل ناموس موسى، الفرق بين الطاهر وغير الطاهر من البهائم والطيور، وكيف تقدم الذبائح من البهائم والطيور الطاهرة دون سواها!! وقد وضح هذا فيما صنعه بعد أن خرج من الفلك إذ بني مذبحاً للرب وأخذ من كل البهائم الطاهرة، ومن كل الطيور وأصعد محرقات على المذبح!!..

أعزائي

البر أيضاً يعني الحياة المتميزة المستقيمة المنفصلة عن العالم، والمتصلة بالله، وقد كان نوح بهذا المعنى، باراً لدى الله في جيله، إذ لم يعش الحياة التي كان يعيشها معاصروه، وأهل جيله، إذ انفصل عن شرهم ومجونهم وطغيانهم واستبدادهم، وسار مع الله، ولعل سيره مع الله كان بمثابة الامتياز والوقاية والعلاج له من السير مع العالم!! كان نوح هنا أشبه بتلك الشجرة من الصفصاف التي لاحظ البستاني أنها تميل إلى جانب، وحاول عبثاً أن يجعلها مستقيمة منتصبة، وأخيراً أدرك السر، إذ كان هناك مجرى صغير يندفع تحت سطح الأرض، وكانت الشجرة تميل نحوه إذ هو ينبوع ريها ومصدر انتعاشها وقوتها، وما أن عرف البستاني هذا، حتى سارع إلى قفل هذا الينبوع، وتحويله إلى الجانب الآخر المهمل من الشجرة، وما أسرع ما اعتدلت واستقامت بعد ذلك!!.. وليس هناك شيء يحررنا من إغراء العالم ولهوه ومتاعه ومجونه ولذاته سوى الاتصال بالله، والالتصاق به، والسير معه، والحياة والانتعاش والري بالشركة معه!!

وما من شك بأن نوحاً كان حلو الشمائل، دمث الأخلاق، رقيق المشاعر، جذاب الشخصية، أطلق عليه أبوه بروح النبوة الاسم {نوح} أي {راحة} إذ قال: «هذَا يُعَزِّينَا عَنْ عَمَلِنَا وَتَعَبِ أَيْدِينَا مِنْ قِبَلِ الأَرْضِ الَّتِي لَعَنَهَا الرَّبُّ» (تكوين 5: 29). وهي لغة أن تحدثت عن شيء، فإنما تكشف لنا الطباع الحلوة الجميلة التي وجد عليها ذلك الإنسان فيما بعد، في علاقته بالناس، على وجه العموم، وعلاقته بأبويه وبيته، على وجه الخصوص، ولعل أفضل مكان يكتشف فيه الإنسان على حقيقته هو بيته، بين أبويه، وأهل منزله، حيث يسقط قناع التكلفة والتظاهر والمواراة، وحيث يظهر على الطبيعة دون زيادة أو نقص،.. وقد كان نوح لأبويه بمثابة الابتسامة العذبة في أرض الدموع أو النسمة الرقيقة في الجو اللافح، أو الزهرة العطرة في البرية القاحلة، أو الينبوع الحلو في القفر المجدب!! وهل هناك في الواقع أفضل من الابن المحب المطيع السامي الأخلاق عندما يتمشى مع أبيه ويشاطره الحياة في ألوانها المختلفة المتعددة!! فهل نتمثل بنوح في أخلاقه وإيمانه الذي حاز قبولا لدى الله أرجو ذلك.