العودة الى الصفحة السابقة
المرأة الفينيقية - الجزء الثاني

المرأة الفينيقية - الجزء الثاني

(متّى 15: 21- 28)

جون نور


«21 ثُمَّ خَرَجَ يَسُوعُ مِنْ هُنَاكَ وَانْصَرَفَ إِلَى نَوَاحِي صُورَ وَصَيْدَاءَ. 22 وَإِذَا امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ خَارِجَةٌ مِنْ تِلْكَ التُّخُومِ صَرَخَتْ إِلَيْهِ قَائِلَةً: «ارْحَمْنِي، يَا سَيِّدُ، يَا ابْنَ دَاوُدَ! اِبْنَتِي مَجْنُونَةٌ جِدًّا». 23 فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَةٍ. فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَطَلَبُوا إِلَيْهِ قَائِلِينَ: «اصْرِفْهَا، لأَنَّهَا تَصِيحُ وَرَاءَنَا!» 24 فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». 25 فَأَتَتْ وَسَجَدَتْ لَهُ قَائِلَةً: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!» 26 فَأَجَابَ وَقَالَ: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». 27 فَقَالَتْ: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». 28 حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهَا: «يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». فَشُفِيَتِ ابْنَتُهَا مِنْ تِلْكَ السَّاعَةِ».

كنت قد تكلمت في الحلقة السابقة عن المرأة الفينيقية وأعود لأتحدث في هذه الحلقة عن نفس الموضوع كي نتأمل في بعض النواحي الروحية في حياة وإصرار هذه المرأة على الطلب من يسوع شفاء ابنتها.

عرفنا من هذه القصة أن يسوع قد تعمّد أن يترك الأماكن المزدحمة، ويخلو إلى مكان قصيّ طلباً في الراحة والهدوء عبر الحدود إلى مدينتي صور وصيداء.

وواضح أن يسوع كان معروفاً في هذه التخوم، لأنه دخل بيتاً وهو يريد أن لا يعلم أحد. ويخبرنا البشير مرقس: «فَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَخْتَفِيَ» (مرقس 7: 24). ولماذا؟ هل كان ذلك بسبب الجموع المحتشدة؟ كلا فإننا نعلم من قصص أخرى أنه كان في مقدوره أن يختفي من الجموع متى أراد. ومثال ذلك ما ورد في إنجيل يوحنا الأصحاح الثامن عندما أحاط به جموع الأعداء محاولين أن يمسكوه ثم رفعوا حجارة ليرجموه يقول الكتاب المقدس: «أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازًا فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى» (يوحنا 59:8). أما في هذه المرة فلم يقدر يسوع أن يختفي لأنه عرف أن امرأة حزينة كسيرة القلب كانت خارج البيت تطلب معونته. وبينما نجد يسوع يختفي من الكبرياء والأنانية ، تراه أمام الألم البشري والحاجة إليه لا يقدر أن يختفي.

وكما سبقت الإشارة كانت هذه المرأة أممية، كما أنها كانت سورية فينيقية. وهذا يشير إلى ديانتها. وكان الفينيقيون السوريون في ذلك الوقت يعبدون الإلهة عشتاروث وهي إلهة القمر. وبدأت تلك العبادة باستحسان الجمال، كما هو الحال في كل العبادات الوثنية. كان الوسط الديني الذي وُلدت فيه هذه المرأة وترعرعت يعلن أن غريزة الإنسان وعاطفته كلها حق وصواب. ولذلك فيجب الانغماس فيها بدون تحفظ، وصارت عبادة الجمال تتناول أي شيء مرغوباً فيه في الشخصية البشرية.

وإننا لواجدون بعض الصفات الممتازة في هذه المرأة كما تصورها لنا قصتها.

ظهر تردد يسوع في إجابة طلب المرأة. فلما جاءت إليه أولاً لم يجبها بكلمة. ولما تدخل التلاميذ طالبين منه أن يصرفها أجابهم: «لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ». ولم يوجه أية كلمة للمرأة، وتوسل إليه التلاميذ لأجلها، وربما أدركوا رغبته في العزلة، فطلبوا إليه أن يعطيها سؤلها حتى تنصرف. ولما ألحت المرأة في طلبها قائلة: «يَا سَيِّدُ، أَعِنِّي!». أجابها يسوع: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». ويقع هذا الكلام على أسماعنا وقعاً قاسياً خشناً، ولكن حتى هنا وفي الترجمة الأصلية للكتاب المقدس لم يستعمل يسوع الكلمة الشائعة عن الكلاب بل استعمل اسم التصغير لها.وهي كلمة فيها شيء من نغمة الرقة، لأنها تشير إلى الجراء الصغيرة التي توجد في معظم البيوت وتلعب مع الأطفال. وفي الواقع قصد يسوع أن يعطي للمرأة فرصة ليعمل إيمانها عملاً كاملاً. وكان يسوع قد عرف هذا الإيمان في كل هذه العملية.

وإن كان يسوع قد أرسل ليجد الخراف الضالة، فقد قال قرب نهاية خدمته الأرضية للذين كانوا يحاورونه بسبب الرجل المولود أعمى، قال لهم: «وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ، يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا... وَتَكُونُ رَعِيَّةٌ وَاحِدَةٌ وَرَاعٍ وَاحِدٌ» (يوحنا 10: 16). وهذه المرأة كانت إحدى هذه الخراف.

وأمام سكون المسيح ثابرت المرأة، وأمام تظاهره برفضها استمرت مثابرة أيضاً. ولما تحدث إليها وظهر كما لو أنه يحاول إبعادها عن أية معونة منه لم تيأس أبداً. ولما قال لها: «لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب». قالت له: «نَعَمْ، يَا سَيِّدُ! وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا!». وهنا وصل إيمانها إلى ذروته ونال نصرته. وبهذا اتضح قصد المسيح من الطريقة التي اتبعها مع هذه المرأة ليجعل إيمانها المضطرب يثابر ويجاهد حتى يصبح إيماناً منتصراً.

«يَا امْرَأَةُ، عَظِيمٌ إِيمَانُكِ! لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ». وبهذه العبارة انصرفت المرأة من عيادة يسوع واختفت من المشهد وعادت إلى بيتها لتجد نتيجة إيمانها وبرهان سلطان المسيح. كانت قد تركت ابنتها بها روح نجس تتلوى وتتبرم بسببه، عادت لتجدها وقد خرج منها الشيطان. وهكذا تنتهي قصة هذه المرأة، ولكنها قصة الكثيرين غيرها. وحينما يقوم رجل أو امرأة بمجازفة كهذه على أساس الاقتناع، فإنه يدخل في صلة مع المسيح تجعله من شعب الله. ويجب أن نذكر هنا أن يسوع لم يعط المرأة من الفتات الساقط تحت المائدة بل أعطاها خبز البنين.

ثم لنتحقق أنه حيثما وجدت نفس تطلب يسوع المسيح بحق وخلوص نية، فهو لا يقدر أن يختفي. فلتكن هذه الحقيقة هي أغنية كل قلب.

والآن، ألا تتفقون معي أن العالم اليوم يستسلم لعمل الروح النجس بطريقة بشعة، وألا تتفق معي أن هذا العالم يحتاج إلى رحمة يسوع ربنا. إن دول العالم كلها تحاول بشتى الطرق أن تتخلص من الروح النجس الذي يستولي عليها، ولكن الاختبار علمنا والتاريخ أثبت لنا، أن السلام والهدوء والحياة الهنية لا تُشترى بالمال ، ولا تأتي نتيجة المجهودات البشرية والمؤتمرات الدولية التي يسيطر عليها روح الكبرياء والأنانية والنفعية. ولكن السلام والهدوء والطمأنينة هي من عطايا الله للذين يحبونه، ويحفظون أحكامه ووصاياه.

فيا إلهي أتوسل إليك في خضوع واستسلام أن تعامل عالمنا هذا، ليس حسب شروره وآثامه، بل حسب رحمتك الكثيرة في المسيح، وأن تخلصه من كل فكر وروح شرير، وأن تهبنا عطية السلام الحقيقي لنعيش معاً في محبة متبادلة وخدمة مضحية، لامتداد ملكوتك الحقيقي على أرضنا.