العودة الى الصفحة السابقة
الأرملة ذات الفلسين..

الأرملة ذات الفلسين..

«فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ، قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ..» (مرقس 12: 42)

جون نور


تحدثت في الحلقة السابقة عن الأرملة عند الخزانة في الهيكل وكما أسلفت في حديثي السابق عن هذه الأرملة بأننا لسنا نعلم الكثير عنها سوى بضعة سطور جاءت في إنجيلي مرقس ولوقا، والمسيح يتحدث عنها، عندما وقف تجاه الخزانة، يراقب من يعطون في صندوق الله، من عطايا قلت أو كثرت على حد سواء،.. ما أسمها! لا ندري!! ومتى مات زوجها! لا نعلم!! وهل كان لها ولد أو بنت أم كانت وحيدة؟ في مسكنها أو كوخها، إن صح أنها كانت تملك مسكناً أو كوخاً!! وهل كان لها أخ أو أخت أو قريب!!؟ كل هذه أسئلة قد لا يقطع الإنسان بالجواب فيها... غير أنه مما لا شبهة فيه، أنها كانت فقيرة غاية الفقر، وربما لم يكن يوجد في مدينة أورشليم كلها من هو أفقر وأكثر عوزاً وحاجة منها على وجه الإطلاق. وقد كشف الوحي عما كانت تملك من رصيد وهما الفلسان، وقيمتهما ربع، أو ما يقترب من الخمسة مليمات ، وقد شهد المسيح أن هذا كل ما عندها كل معيشتها،... ولم تكن المرأة في غاية الفقر فحسب، بل أكثر من ذلك كانت منكوبة، إذ مات زوجها، وعرفت طعم الترمل ومرارته وقسوته، على أن المرأة الفقيرة الأرملة، كان مؤمنة بالله، تعرف طريقها إلى الصلاة في بيت الله، والتقدمة والعطاء لإلهها رغم ما هي عليه من شدة حاجة، أو قسوة عوز، أو ضيق ذات اليد، على صورة نادرة بين الناس، ولا أتصور قط أنها وهي تقترب من صندوق العطاء، وهي تدرك أن المعطي المسرور يحبه الله، كانت تحمل وجهاً عابساً، أو بائساً، أو متذمراً، بل لعلها على العكس كانت تتقدم بالوجه المضيء الطلق الممتلئ بالإيمان بالله، والرضى بأعماله، والتشبع بالشركة الدائمة معه، مهما كانت الظروف والأحوال المتنوعة والمختلفة المحيطة بها!!..

ولعل الأرملة ذات الفلسين، التي رآها المسيح ذات يوم في هيكل الله، وهي تقدم فلسيها، كانت هذا النوع من المعطين، وكانت النموذج العظيم الرائع، الذي لفت به المسيح نظر الأجيال كلها، وحيث يرى الله التقدمة في أروع صورها أمام عينيه، وإن لم تكن هكذا بالضرورة أمام إدراك الإنسان أو فهمه أو استحسانه كانت قصة هذه الأرملة الفقيرة أشبه بالمصباح الهادي أو المشعل المضيء، لمن يريد أن يتعلم كيف يعطي أو يقدم أو يبذل بين الناس...

جلس المسيح تجاه الخزانة، وكانت تقع في دار النساء في الهيكل، وبجانبها دار الأمم، حيث كان يتسع المكان في هذه البقعة وحدها إلى خمسة عشر ألفاً من العابدين، ولا أعلم لماذا قصد المسيح، بهذه الأرملة، ومعها، أن يحول أنظارنا إلى هناك، حيث وضع ثلاثة عشر صندوقاً، يقدم فيها المعطون عطاياهم لله،.. الذي أعلمه على أية حال، أن يسوع كما يقول الكتاب في إنجيل مرقس: «جَلَسَ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ» (مرقس 12: 41).

ليس من العجيب أن يضع المسيح هذين الفلسين في كفة، وجميع التقدمات والعطايا التي تقدم بها الآخرون وهي كما يشهد الكتاب كانت كثيرة، في كفة أخرى، ومع ذلك رجحت كفة الفلسين على عطايا الآخرين!! كيف يكون هذا! وما هو السر في ذلك! وعلينا أن ندرك بادئ ذي بدء أن الحساب عند الله يختلف تماماً الاختلاف عن الحساب عند الإنسان، فليس المهم عند الله الكم بل الكيف، أو المادة بل الروح. وقد تميزت عطية الأرملة الفقيرة على الآخرين بالكثير الذي نذكر بعضه.

إن هذه الأرملة عندما ألقت كل معيشتها، كل ما عندها كشفت عن جلال وعمق وعظمة اعتمادها الكبير والكامل على الله، فهي وإن كانت لا تملك بعد ذلك شيئاً فإنها إذ تملك الثقة الكاملة الموطدة بعناية الله تملك كل شيء، أو هي كما يصف الرسول، وصفها بالقول: «وَلكِنَّ الَّتِي هِيَ بِالْحَقِيقَةِ أَرْمَلَةٌ وَوَحِيدَةٌ، فَقَدْ أَلْقَتْ رَجَاءَهَا عَلَى اللهِ، وَهِيَ تُواظِبُ الطِّلِبَاتِ وَالصَّلَوَاتِ لَيْلاً وَنَهَارًا» (1تيموثاوس 5: 5)!.. أليس هذا عين ما يذكره السيد، وهو يطلب من المؤمنين، وهم بصدد القلق أو التفكير أو الانشغال أو الاهتمام بالمأكل والمشرب واللباس: «اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ السَّمَاءِ: إِنَّهَا لاَ تَزْرَعُ وَلاَ تَحْصُدُ وَلاَ تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ السَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِالْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا؟» (متّى 6: 26).. يكفي المرأة أن ترفع عينيها كل صباح إلى الطائر الذي يضرب بجناحيه هنا وهناك في الأعالي، لتعلم بأن الله الذي لا يمكن أن يتركه دون طعام، هيهات أن يتركها وهي أفضل عنده، ليس من هذا الطائر وحده، بل من جميع الطيور التي تطير على وجه البسيطة مجتمعة معاً!!.. كان يقرأ واحد من الرجال قائمة المتبرعين لمشروع ديني كبير في وكان كلما ذكر رقماً كبيراً عظيماً لإنسان كبير يدوي تصفيق المستمعين الحاضرين، حتى جاء إلى رقم متواضع صغير تقدم به متبرع فقير معوز، ولم يهتم أحد للأسف بالتحية والتصديق، رئيس المجمع راعي الكنيسة كان يعلم عن يقين أن المتبرع ألقى بفلسين في العطاء دون أن يعلم أحد!!.. سكت قليلاً ثم صاح بملء الصوت: اسمعوا!! اسمعوا!! إني اسمع تصفيقاً.. إنه تصفيق اليدين المثقوبتين!!.. وبالطبع كان يقصد أن الرب يسوع في المجد كان فرحاً بهذا العطاء!!... وسعيد حقاً ذلك الإنسان الذي تصفق له يد المسيح، علم الناس بذلك أم لم يعلموا على حد سواء!..