العودة الى الصفحة السابقة
الأرملة عند الخزانـة

الأرملة عند الخزانـة

(لوقا 21: 1 – 4)

جون نور


«1 وَتَطَلَّعَ فَرَأَى الأَغْنِيَاءَ يُلْقُونَ قَرَابِينَهُمْ فِي الْخِزَانَةِ، 2 وَرَأَى أَيْضًا أَرْمَلَةً مِسْكِينَةً أَلْقَتْ هُنَاكَ فَلْسَيْنِ. 3 فَقَالَ: «بِالْحَقِّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنَ الْجَمِيعِ، لأَنَّ هؤُلاَءِ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا فِي قَرَابِينِ اللهِ، وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا، أَلْقَتْ كُلَّ الْمَعِيشَةِ الَّتِي لَهَا».

سأتحدث في هذه الحلقة من أسماء وأحداث في الكتاب المقدس عن امرأة يذكرها الكتاب المقدس في إنجيل لوقا في هذه القصة نرى امرأة بدون اسم. وليس لدينا سجل لأية كلمة فاهت بها، كما أن يسوع لم يتكلم معها ولكنه تحدث عنها فحسب. وفي الغالب لم تعرف ما قاله عنها. والذي حدث أنها مرَّت أمامه وجازت ساحة الهيكل واستمرت في طريقها في وحدتها وفقرها المدقع. ويظهر أن لا صلة بينها وبين يسوع. وفضلاً عن ذلك فإن حديث يسوع عنها كان مع تلاميذه وكان حديثاً خاصاً.

يقول البشير مرقس إن المسيح كان يجلس تجاه الخزانة، وكانت الخزانة موضوعة في الفناء المخصص للنساء في الهيكل، وهو المجاور لفناء الأمم (من غير اليهود). وكان يوضع في هذا الفناء ثلاثة عشر وعاء على شكل قرون. وعند مرور الشعب في هذا الفناء كانوا يضعون عطاياهم في تلك الأوعية. وفي الوقت المشار إليه في قصتنا هذه، كان كثيرون يفعلون ذلك. وبينهم جازت الأرملة ووضعت عطيتها أيضاً. وجلس يسوع يراقب. وأهمية هذه الحادثة في أنها الأخيرة، التي سجَّلت في حياة يسوع قبيل أن يترك الهيكل فلا يعود إليه مرة أخرى.

ونستطيع أن نلاحظ باهتمام موقف ربنا يسوع بأن نربط القصتين (حسب سجل البشير مرقس والبشير لوقا) إحداهما بالأخرى: فمرقس قبل أن يسجل الحادثة يقول: «وَقَالَ لَهُمْ فِي تَعْلِيمِهِ: «تَحَرَّزُوا مِنَ الْكَتَبَةِ، الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ. الَّذِينَ يَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، وَلِعِلَّةٍ يُطِيلُونَ الصَّلَوَاتِ. هؤُلاَءِ يَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ. وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا. فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ....» (مرقس 12: 38 - 42). وهنا يقول مرقس إن يسوع جلس تجاه الخزانة ونظر. والكلمة لا تعني نظرة عابرة، ولكنها تعني المراقبة الدقيقة.

عطية المرأة تتحدث عن فقرها الشديد. تقول القصة بكل وضوح أن عطيتها كانت كل معيشتها، ولم يكن معها في تلك اللحظة أي شيء تعتمد عليه في حياتها، ولذلك نرى أمامنا امرأة في حالة يُرثى لها من الفاقة والعوز.

كان يسوع ينظر، ولا أظن أنها رأته. ويغلب على الظن أنها لم تكن تعرفه. كانت واحدة من الجمع الزاخر الذين جاءوا للعبادة، ومع ذلك كانت منفصلة عنهم. كانت عابدة حقيقية لإله آبائها وآمنت به وعرفت التزامها في عطية مادية للهيكل العظيم تحمل معها الإدراك بمسؤوليتها في العبادة – مسؤولية العطاء.

وكانت كل العطايا التي تُجمع في الخزانة تُقسم ما بين الكهنة والفقراء. وكانت المرأة تحاول أن لا يلاحظها أحد ولا يعرف ماذا أعطت.

وكانت عطيتها أكثر من رمز لموقفها كعابدة. إنها كانت كل حياتها، كل معيشتها، بل كل ما كان عندها. وكان يمكن أن تجوز المرأة بين الجموع إلى خارج الهيكل دون أن يعيرها أحد التفاتاً، ودون أن يعرفها أحد إلاَّ من عيني يسوع المراقبتين، فقد رأى فيها فرداً من الجماعة المختارة التي بقيت أمينة لله مع زيغان شعبه وانحرافه.

وضمن ما يسجله مرقس كلمة صغيرة ولكنها مهمة جداً فهو يقول: نظر كيف يلقي الجميع نحاساً «نقوداً» في الخزانة، أي أنه كان يراقب كيفية العطاء، فإن يسوع لم يهتم بما أعطوه، بل كيف أعطوا.

ورأى الأغنياء يلقون كثيراً. ورأى امرأة تلقي ما عندها. إن يسوع رأى الأيدي وهي تعطي، ولكن خلف تلك الأيدي رأى موقف النفس وغرضها. إنه كان يلاحظ روح العطاء.

ومن ثم تحدث إلى تلاميذه ومدح العطاء. ثم أوضح سبب مدحه.

لقد أمسك يسوع بيده الميزان ووضع كل العطايا التي قُدِّمت (ما عدا عطية المرأة) في كفة، ووضع ما قدمته المرأة في الكفة الثانية. ثم نبه تلاميذه إلى ما رأى ، وأعلن أن كفة عطية المرأة رجحت على الكفة التي تحمل كل العطايا الأخرى. وأعلن أن هذه الأرملة الفقيرة قد ألقت «أكثر من الجميع»، أي أن عطيتها كانت أكثر في ميزان السماء من كل ما قدمه الجميع. إن قيمة الفلسين كانت أعظم من كل العطايا الأخرى. وإن مدح يسوع لفلسي المرأة رفعها إلى دائرة القيمة العملية التي أثمرت – في القرون التالية – مقداراً يفوق كثيراً ما وُضع في الخزانة في ذلك اليوم. إنه أخذ الفلسين المقدسين وحوّلهما إلى ذهب في مقادس الله. وهذا إعلان لمبدأ عظيم. فلما دهنت مريم قدميه بالطيب أعلن أن ما فعلته سيُخبر به في كل العالم تذكاراً لها. وهكذا صار. وتلك القارورة من الطيب أوحت بنعمة العطاء الجزيل الذي كرِّس للمسيح. وهكذا كانت عطية هذه المرأة التي جازت دون أن يراها أحد، وكانت عظيمة في قلبها وولائها وتعبدها. فالجميع أعطوا من فضلتهم وأما هي فأعطت من إعوازها. ألقت كل معيشتها. والفرق هو بين الفائض وبين التضحية.

يسوع لا يزال ينتظر ليسجل، لا حسب المقدار، بل حسب الباعث إلى العطاء. وهو لا يحتقر أية عطية مهما قلّ مقدارها ما دام الباعث إليها هو العبادة والتكريس والتعبير عن إيماننا بالله، واهب كل النعم ومعطي كل البركات.