العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة الثامنة

التطويبة الثامنة

جون نور


«طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 10).

في هذا العالم لا ترتاح عيوننا لمشاهد العذاب والاضطهاد. ومن منا يرغب أن يكون مضطهداً؟ ومن يحب أن يُساء إليه! كما وأن الجميع يريدون أن يعاملوا معاملة طيبة من جيرانهم. وأنه ليتعذر علينا أن نتلمس بركات تتأتى عن العداوات أو تنجم عن البغضاء.

ويبدو لأول وهلة أننا لكوننا مسيحيين علينا أن نجذب انتباه وإعجاب من هم حولنا. وتعنى المسيحية عادة بالفضائل كالأمانة والاستقامة، لتجعلها قسماً من الحياة العملية. وليس مستغرباً أن نرى جماعة تلتف حول شخص كرس نفسه للمسيح. وإنك تسمعهم يرتلون وينشدون ويصرحون بأنهم سعداء – ولا أحد ينكر عليهم تلك السعادة.

وتحملنا كلمات هذه التطويبة لأن نفكر قليلاً بالسؤال القديم: لماذا يضطهد البار ولماذا يتألم المؤمن؟ ولا بد أن يكون كل منا قد سأل نفسه هذا السؤال عدة مرات. ولا بد أن يكون كل منا قد توصل إلى النتيجة عينها التي توصل إليها غيرنا وهي: إن هناك أناساً يُضطهدون من أجل البر!

قد يكون ذلك بسبب نزوات في طباعهم أو لأمور شاذة في شخصياتهم أو لاتسامهم بالتعصب الديني، ولكن قد يكون هذا هو واقع الحال دائماً. فهناك قانون روحي لا يتغير أبداً. هو يشبه قانون الجاذبية. وفي الرسالة إلى تيموثاوس نقرأ أن: «جميع الذين يريدون أن يعشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون».

نذكر أننا نعيش في عالم معكوس الأوضاع. وفيه يميل الناس إلى الكراهية بدلاً من أن يحبوا بعضهم البعض...

ولو فرضنا أن أناساً قبلوا أن يعيشوا عيشة صالحة في المسيح، فإن هذا ليس سهلاً عليهم ما دام إبليس يسرح ويمرح في هذا العالم، وما دامت قلوب الكثيرين خاضعة لسيطرته. فلا مفر من الاضطهاد لا سيما على هؤلاء الحجاج الذين يعتبرون أنفسهم غرباء في هذا العالم. ويقول الرسول بطرس: «أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ كَغُرَبَاءَ وَنُزَلاَءَ... أَنْ تَكُونَ سِيرَتُكُمْ بَيْنَ الأُمَمِ حَسَنَةً، لِكَيْ يَكُونُوا، فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرّ، يُمَجِّدُونَ اللهَ فِي يَوْمِ الافْتِقَادِ» (1بطرس 11 و12).إن إبليس لا يتورع عن استخدام أية وسيلة لاضطهادنا وتدميرنا. فلا بد أن يثير علينا الاضطهاد.

تقول كلمة الله: «إِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ عَلَى ظُلْمَةِ هذَا الدَّهْرِ». (أفسس 12:6).

وقد صرّح المسيح بأن درب الصليب هو نصيب المسيحي. وهذه كلمات السيد له المجد: «مَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى 38:10). وهل يعني هذا أن نضع الصليب حول أعناقنا أو نزين به ملابسنا فنكتفي بهذا الشعار ونتباهى ونتفاخر؟ إن المقصود من الصليب هو أن العار الذي وسم به صليب المسيح قد غدا عارنا. ومعناه أنه يجب علينا أن نحمل ذلك الصليب الذي حمله سيدنا، فنقول مع بولس: «حَاشَا لِي أَنْ أَفْتَخِرَ إِلاَّ بِصَلِيبِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِهِ قَدْ صُلِبَ الْعَالَمُ لِي وَأَنَا لِلْعَالَمِ» (غلاطية 14:6).

تنص التطويبة الثامنة قائلة: «طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ»! نحن في كثير من الأحيان نتألم بسبب أخطائنا وضعف إمكانياتنا. والمسيحيون الذين تصرفاتهم نابية وأحكامهم سقيمة وطباعهم نزقة، يتعرضون لمقاومة الناس بالرغم من حصولهم على البر، وبالرغم من تمتعهم بحياة التقوى والصلاح. والناس لا يقاومون العنصر الطيب الذي فيهم بل يقاومون نقائصهم.

لذلك فلنحذر من أن نتصرف تصرفاً لا يليق بنا كمسيحيين أو أن نلبس ألبسة تنفر الناس منا أو أن نعظ بما يبعد الناس عنا. فمثل هذه التصرفات لا تفيد الإنجيل الذي نبشر به. وأمثال هؤلاء المسيحيين يكونون إعلانات ضعيفة عن المسيحية التي يمثلونها.

لقد عرفنا الآن أسباب الاضطهاد. فلننظر إلى السعادة التي نحصل عليها كمسيحيين عن طريق الاضطهاد. إن المسيح وعد بأن المضطهدين سيكون لهم ملكوت الله. وقال: «اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ، فَإِنَّهُمْ هكَذَا طَرَدُوا الأَنْبِيَاءَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ» (متّى 5: 12). لكن الظاهر أن الفرح قد أخذ يختفي من قاموس حياتنا. وربما كان أحد تلك الأسباب هو أننا أخذنا نفكر بأن الفرح والسعادة إنما يمكن الحصول عليهما عن طريق الراحة وحياة الرخاء. ويقول الرسول يعقوب لنا: «اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ» (يعقوب 1: 2).

الواقع أن الاضطهاد هو نتيجة لاحقة لمن يعيش عيشة مسيحية. ويسعد المضطهدون لأنهم عن هذا الطريق يعبرون إلى السماء. والآلام للمسيحي هي بمثابة الآلام اللازمة لكل يافع نام. فإذا لم يوجد ألم لا يوجد نمو. وإذا انعدم الألم حرمنا كل مجد. فلا نصر ولا اضطهاد ولا مكافأة بدون ألم. وعلينا ألا ننسى ما قاله الرسول بولس: «كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعًا لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ» (رومية 8: 28).

كان لتضحيات جماعة الله على مدى الأجيال تقدمات جلى لثقافتنا وإيماننا وأخلاقنا. ولا غرابة، ففي صميم الحياة أشياء ثمينة، جديرة بأن نموت من أجلها. وأن وجوداً مجرداً عن الإيمان معناه قبول مصير أردأ من الموت.

وهكذا فلتكن لنا عاطفة ملتهبة لإرضاء الله. ولنجعل الآلام تتوجنا بتاج يؤهلنا للملكوت السماوي..