العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة السابعة

التطويبة السابعة

جون نور


«طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ» (متّى 5: 9).

قال المسيح: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ». وقد نتساءل: أين يبدأ صنع السلام؟ وكيف نغدو من صانعي السلام. ولنقل بادئ ذي بدء أن هذا السلام المنشود ليس وليد الحرب، لأن الحرب إنما تبعث الفقر والألم والكراهية. ولا تهيئ لنا الحرب سلاماً أو توفر هناء. لأن السلام هو سلام فكري وروحي. وأول خطوة تضمن لنا الحظوة بالسلام الحقيقي هي الكف عن مقاتلة الله، وذلك عندما نسلم أسلحتنا له ونكف عن مهاجمته.

والخطوة الثانية هي إلا نجعل سلامنا سلبياً بل لنجعله يتميز بالخدمة. فسلامنا المنشود ليس سلاماً خيالياً، ولا هو عقيدة لاهوتية بل هو سلام اختبره الألوف من الناس فوجدوه مناسباً ليومهم الحاضر ولحياتهم العتيدة... وكل علاقة عمودية يجب أن تقترن بعلاقة أفقية، وإلا فإن إيماننا لا يكون مجدياً. وقد أوصانا يسوع بأن نحب الرب إلهنا وقريبنا كأنفسنا. ولندرك أن هذه المحبة المزدوجة لله وللإنسان هي إيجابية وسلبية في آن واحد. فهي تعمل كما تعمل الكهرباء الموجبة والسالبة إذا ما التقتا. ولا قيمة للإيمان الشخصي إن لم يقترن بتطبيق اجتماعي.

أليست المسيحية الحقة هي الابتعاد عن مركز أنانيتنا واتخاذ منحى جديداً. وعندما نجد السلام الحقيقي مع الله تغدو حياتنا كالمثلث الذي رأسه الله، وزاويتا القاعدة أنفسنا وأنفس الآخرين. فعند ذاك ينساب السلام من أعلى إلى أسفل، وينتشر من القمة إلى القاعدة. وهكذا نغدو نحن مجرد قنوات لنقل سلام الله للآخرين.ولا يخفى أن هناك مناحي عديدة ومتنوعة فيها نستطيع أن نكون من صانعي السلام.

عندما يعقد إكليل زواج يقول رجل الدين للعروسين: «ما جمعه الله لا يفرقه إنسان». ويبرز الله كركن ثالث في هذا الرباط المقدس. لكن لماذا لا يعطي الله المكانة اللائقة به في هذا الزواج؟ وإذا كان الله هو الذي يقرن العروسين في البداية برباط مقدس، فلماذا لا يسمح بحضوره الدائم في ذلك البيت الذي كان هو بدايته ومصدر وجوده؟

لقد تحطمت كثير من البيوت على صخور الحياة لأنها تركت الله خارج دائرة العائلة! يظن الكثيرون أنهم إذا ما حصلوا على مسكن أحسن أو عاشروا أناساً أرقى، أو سكنوا قرب جيران غير جيرانهم الأصلين فإن حياتهم البيتية تكون أسعد وأهنأ. وكأنهم يتناسون الحقيقة الواقعية بأن سر السعادة البيتية هو في الله الذي هو الشريك الثالث في عقد الزواج المبرم. والله يجب أن يأخذ المكانة اللائقة به في البيت. ومتى ضمنا سلامنا مع الله نضمن سلاماً حقيقياً في البيت، ونكون فعلاً من صانعي السلام.

وإذا رغب الفرد أن يكون فعلاً من صانعي السلام الحقيقيين في المجتمع فليبدأ بنفسه ويضمن أولاً سلامه مع الله. فإذا أتم هذا فإن السلام ينتقل منه إلى المجتمع. وتكون الثمار التي يحصل عليها من ثمر الروح التي ذكره الرسول بولس: محبة – فرح – سلام – طول أناة – لطف – صلاح – إيمان – وداعة – تعفف.

إن مرضنا عزيزي المستمع هو أننا نحاول أن نبني مجتمعنا بدون الله. ففي كثير من الأماكن رفعنا الكتاب المقدس من المدارس، وأبعدنا الله عن دائرة الحياة. والنتيجة التي نجمت عن ذلك هي هذه الفوضى التي تسربت إلى مجتمعنا فحجبت روح الصلاح منه. ولا يمكن أن تستعيد هذه الجماعة سلامها إلا متى أعادت الله إلى دائرة حياتها.

عندما قال المسيح لنيقوديموس: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ» (يوحنا 3: 3) لم يقصد أن يخاطب عالماً لاهوتياً بل قصد أن يخاطب كل فرد منا. وما نيقوديموس إلا مثال نموذجي لكل الشعب... ولا يمكن لعالمنا أن يولد من جديد إن لم يتجدد أفراده، ويحصلوا على السلام النازل من عند الله.

ومما لا ريب فيه أن عمل السلام هو عمل نبيل. ولكن لا يمكن بناء سلام دائم بقوتنا الخاصة. وهذا يشبه بناء يروم أن يبني حائطاً بدون أن تتوافر لديه أدوات البناء، أو نجاراً يروم صنع مائدة بدون مطرقة، أو رساماً يود أن يرسم صورة بدون فرشاة... وهكذا فالذي يروم أن يكون من صانعي السلام عليه أن يتعرف على مصدر السلام وأن يأتي إلى ينبوعه. ولكي نقيم سلاماً على الأرض علينا أن نعرف السلام الذي في السماء. وقبل كل شيء علينا أن نعرف ذاك الذي «هو سلامنا».

نحن نعلم أن المسيح لم يترك لأتباعه ميراثاً مادياً. وجل ما كان لديه عندما ترك أرضنا هو رداء اقتسمه جنود الرومان... وأم سلمها لعناية أحد تلاميذه... وجسد استلمه يوسف الرامي... وروح أرجعها إلى أبيه السماوي... إنما المسيح ترك شيئاً أثمن من الذهب، وأضمن من القصور والممتلكات. ترك لنا سلامه الذي يفوق كل سلام ونسمعه يقول: «سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» (يوحنا 14: 27).

ومتى عرفنا معطي السلام الأعظم، واختبرنا هذا السلام الذي يهبنا المسيح إياه فعند ذاك نصبح حقيقة من صانعي السلام. وقد وعد المسيح بأن يهب سعادة لصانعي السلام، وبهذا يتحقق وعده الإلهي وقوله المطمئن: «طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ».