العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة السادسة

التطويبة السادسة

جون نور


«طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ» (متّى 5: 8).

قال يسوع: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ». ومعنى هذا أنه ما دام القلب مستودع العواطف فلذلك وجب أن تكون عواطفنا تجاه الله نقية وغير ملوثة. لكن ماذا عنى المسيح بنقاوة القلب؟ هل عنى أن نكون كاملين وبلا خطية بحيث نصل إلى مرتبة من مراتب التسامي التي لا نعود فيها نسقط أو نخطئ بالمرة؟ لقد ندد المسيح بالفريسيين الذين كانت لهم فكرة خاطئة عن نقاوة القلب التي عناها. وعلم المسيح أن الله ينظر إلى الأعماق، ولا يرضى بالأعمال الخارجية بل يتفحص القلوب والنوايا، وأنه لا يحكم على الظواهر بل على البواطن، لأنه يتطلع إلى نوايا القلب والأفكار الباطنية.

الله لا يعتمد بأحكامه على الأمور الخارجية بل تراه ينفذ إلى أعماق النفس ويتفحص خفايا النيات. قال النبي ارميا {القلب أخدع من كل شيء}. وقال يسوع: {لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة}. وقد أوضح المسيح هذه الحقيقة بأن صور قلب الإنسان مظلماً وجاحداً ومتكبراً ومتحجراً، ذلك لأن القلب في شكله الطبيعي يكون عرضة لكل قسوة وشر وإجرام.

لم يقل المسيح: طوبى لمن يفكرون أفكاراً سعيدة... بل قال: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ». ولا تتولد نقاوة القلب هذه عن إيحاءات فكرية أو نتيجة للتعليم أو التهذيب. وإنما يتأتى تغيير القلب بطريق إلهي وبعمل نعمته العجائبية. ويقول الكتاب المقدس: «وَأُعْطِيكُمْ قَلْبًا جَدِيدًا، وَأَجْعَلُ رُوحًا جَدِيدَةً فِي دَاخِلِكُمْ، وَأَنْزِعُ قَلْبَ الْحَجَرِ مِنْ لَحْمِكُمْ وَأُعْطِيكُمْ قَلْبَ لَحْمٍ» (حزقيال 36: 26).وهكذا يتضح لنا أن نقاوة القلب هي نتيجة الولادة الجديدة، وهي أعجوبة هذه الخليقة الثانية. وكما يقول العهد الجديد: «اَلَّذِينَ وُلِدُوا لَيْسَ مِنْ دَمٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ جَسَدٍ، وَلاَ مِنْ مَشِيئَةِ رَجُل، بَلْ مِنَ اللهِ» (يوحنا 1: 13). ولذلك فحاجة الإنسان هي إلى هذا القلب الجديد المطهر. ولا يتم مثل هذا إلا بعمل من الله بفعل الكفارة وموت المسيح على الصليب.

إن نقاوة القلب هي من المؤهلات التي تساعد الفرد على دخول ملكوت السماوات. ونحن نحصل على هذه النقاوة إذا رفضنا الخطية وقبلنا المسيح. وليسأل كل نفسه: هل حصلت على القلب الجديد؟ فإذا كان قد حصل على ذلك فإنه يكون قد أدرك أيضاً سر السعادة.

ويستحيل على المرء أن يعيش عيشة نقية إن لم يكن له قلب نقي! فلا يكفي أن تكون الرغبات والأفكار والأعمال نقية، فهذه كلها تنبع من القلب، إنما من الضروري أن يكون القلب أيضاً نقياً. ومتى حصل الإنسان على القلب النقي صارت كل حياته نقية. ومن أجل هذا يطلب الرسول بولس منا أن يكون لنا الفكر الذي للمسيح.

يريدنا الله أن نكون أنقياء في أفكارنا. ويقول الرسول بولس: «كل ما هو حق كل ما هو جليل كل ما هو عادل كل ما هو طاهر كل ما هو مسر كل ما صيته حسن ... ففي هذه افتكروا». وقال المسيح بخصوص العفة: «إِنَّ كُلَّ مَنْ يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا» (يوحنا 5: 28 و29). ويقول سليمان الحكيم في سفر الأمثال: «كَمَا شَعَرَ فِي نَفْسِهِ هكَذَا هُوَ» (أمثال 23: 7).

يريدنا الله أن نكون أنقياء في جسدنا. فلنسمح للعين أن ترى ما نسمح به للنفس. وإن لم يكن المرء قد ولد ولادة جديدة فإن نظرته للحياة تكون ملتوية ومنحرفة. ولكن متى وضع المرء المسيح نصب عينيه فإن القشور التي تراكمت حوله تسقط، والشهوة تتوارى. ولنأخذ رغباتنا ولنسمرها عند صليب المسيح ونقول: أنا صلبت مع المسيح ولذلك فقد طردت كل شهوة أثيمة إلى الأبد...

وفي الوسع أن نكون فاسدين عن طريق ألسنتنا، وذلك بالتلفظ بما هو بذيء ومشين. والكتاب المقدس يحذرنا من العشرة الفاسدة ومن الكلام الباطل. وقال صاحب المزامير: «اجْعَلْ يَا رَبُّ حَارِسًا لِفَمِي. احْفَظْ بَابَ شَفَتَيَّ» (مزمور 141: 3). وما أكثر الذين يرتكبون الرذائل عن طريق كلامهم. فأحفظ لسانك طاهراً، واسأل الله أن يقدس هذا اللسان لك!

لا يكفي المسيحي أن يكون نقياً في جسده وفي فكره، بل يترتب عليه أن يكون أيضاً نقياً ومستقيماً في تصرفاته ومعاملاته وسلوكه. ويقول الرسول بولس: «لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ» (أفسس 4: 29). ويقول يوحنا الرسول: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِيكُمْ، وَلاَ يَجِيءُ بِهذَا التَّعْلِيمِ، فَلاَ تَقْبَلُوهُ فِي الْبَيْتِ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ سَلاَمٌ، لأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ يَشْتَرِكُ فِي أَعْمَالِهِ الشِّرِّيرَةِ» (2يوحنا 1: 10 و11).

أنقياء القلب يعرفون حق المعرفة معنى هذه التطويبة، ويدركون سر السعادة. وما دامت قلوبهم نقية تجاه الله كذلك نقية في علاقاتها مع إخوانهم بني الإنسان. إنهم سعداء لأنهم يملكون ذاك الذي هو الكل في الكل. ولا يحسدون إنساناً يملك ممتلكات أرضية أو حائزاً على ممتلكات عالمية. إنهم ليسوا أعداء لأحد، لذلك فهم لا يعتبرون أي إنسان عدواً لهم. ونتيجة ذلك هو حصولهم على سلام الله، وسلام هذا العالم. وما دام المسيح قد غفر لهؤلاء ذنوبهم، فهم بدورهم يغفرون للناس ذنوبهم. وجماعة مثل هذه تكون مقدسة من كل حقد وبغضاء وكراهية.

فسر السعادة هو الله. وسر معرفته ومعاينته هو عن طريق هذا القلب النقي. وتتم نقاوة القلب عن طريق الله. والحاصل على القلب النقي يغدو سعيداً إلى أقصى حدود السعادة. إنه سعيد رغم كل الظروف العسيرة والأحوال الصعبة!

فـ «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ».