العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة الخامسة

التطويبة الخامسة

جون نور


«طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ» (متّى 5: 7).

لو لم يكن لتلاميذ المسيح إيمان أقوى من إيماننا لكنا نشك في أن تغدو المسيحية قوة ثورية هائلة. والحقيقة أننا مقصرون لبعض الأسباب والاعتبارات بأن نتخذ المسيح مخلصاً لنا، وبأن نقدم له الاعتبار اللائق به. فنحن نقصر في تقديم ولائنا له، وتكريس حياتنا لخدمته. ولو كنا من العائشين في زمان صلبه لأنكرناه مثلما أنكره بطرس ... وربما كان عدد كبير منا يخونه كما خانه يهوذا، أو ربما أيد الكثيرون منا الجمهور الصاخب عوضاً عن تأييدهم للمسيح.

نجد المسيح في هذه التطويبة يضع إصبعه على هذا النبض الروحي الذي أخذ يتقطع في هذا العصر. فالطبيب الأعظم يشخص المسيحية المحتضرة بكلمات قليلة. إنه يصف لنا أحدى متاعبنا الكبرى إلا وهي – التمركز الذاتي. فإننا في معظم كلامنا نشدد على ضمير المتكلم فنقول هذه مشكلتي... وهذا شعوري... وهذه عائلتي... وهذه كنيستي وطائفتي... إلى غير ذلك من استعمالنا ضمير المتكلم وتشديدنا عليه.

أوضح المسيح معنى المسيحية عندما قال: «مَنْ آمَنَ بِي، تَجْرِي مِنْ بَطْنِهِ أَنْهَارُ مَاءٍ حَيٍّ» (يوحنا 7: 38). والمسيحية ليست سوى تدفق هذه المياه الحية التي تجعلنا أن نتصل بالمسيح. ولا يخفى أن كل بركة تصلها المياه ولكنها لا تخرج منها تصبح مياهها راكدة آسنة. وهكذا في المسيحية فمن يعتبرها اختبارات شخصية وأفراحاً ذاتية دون الافتكار بمشاركة الآخرين فإنما يشبه تلك المياه المتجمعة في بركة آسنة. ذلك لان الافتخار عند ذاك يكون افتخاراً بمحبة مجمدة وليس بمحبة حية متدفقة.

إن في الوسع تسمية هذه التطويبة بتطويبة الانفتاح والانطلاق. لأن المسيح يشدد فيها على أن نكون قنوات متفتحة لا مسدودة. فقد أراد أن تسير محبته ورحمته عن طريقنا للناس. وإذا لم يكن ديننا يتفاعل في الحياة اليومية، أو إذا كنا نقصر عن الاهتمام بإخواننا فنعيش منكمشين على ذواتنا فعند ذلك نتأكد أننا لا نعرف المسيح ولا نفهم معنى هذه التطويبة التي تتحدث عن الرحمة وتشير إلى الرحماء.

وإذا قبلنا الإنجيل كإنجيل روحي، واتخذنا كلامه كلاماً حياً لكننا في الوقت ذاته نهمل واجباتنا تجاه إخواننا فإننا نكون كمن ألغي الإنجيل برمته. ويستطيع إنجيل العهد الجديد أن يثمر فقط عندما تكون بذرة الروح مدفونه في أغوار تربة الرحمة الإنسانية. ويعني هذا استمرار عملية الأخذ والعطاء. وقد صرّح يسوع بأن في العطاء سعادة للناس.

ورب متسائل يقول: دلنا على هذه النواحي التي نستطيع فيها أن نظهر الرحمة في عالمنا. فنقول لذلك المتسائل هناك مناح عديدة منها:الاهتمام بالحاجات الاجتماعية للآخرين: عندما تذهب إلى سريرك الليلة تذكر أن أكثر من نصف سكان العالم جياع... وفقراء... وتعساء. وأن معظمهم أميون لا يقرأون ولا يكتبون... ومعظمهم يستعمل أدوات الفلاحة القديمة التي استعملها أجدادنا منذ آلاف السنين... ومعظمهم مستعبدون للأغنياء ولرجال الإقطاع وأصحاب الأملاك... وكثيرون في حاجة ماسة إلى غذاء ولباس، وبيوت وعناية صحية، ووسائل للتعليم. وفوق كل شيء في أمس الحاجة إلى المحبة. أو ليس أمامنا، والحالة هذه، مسؤوليات جسيمة وخطيرة تجاه إخوتنا في البشرية المعوزين والمحرومين؟

إن المسيح أطعم الجياع ساعة علمهم وبشرهم وأذاع عليهم رسالة الإنجيل. إنه ندد بالذين لا يقرنون الدين بالحياة وبالعمل ويجردونه عن الرحمة والشفقة. ألم يقل المسيح: «وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تَأْكُلُونَ بُيُوتَ الأَرَامِلِ، ولِعِلَّةٍ تُطِيلُونَ صَلَوَاتِكُمْ. لِذلِكَ تَأْخُذُونَ دَيْنُونَةً أَعْظَمَ» (متّى 23: 14).

أعزائي المستمعين الشيء المؤلم أن نرى بعد ظهور المسيحية بألفي سنة أن أكثر من نصف سكان العالم لا يعرفون شيئاً عن نعمة المسيح. وهذه النعمة هي التي تدعونا إلى تكريس الحياة من جديد، وتحملنا لأن نخبر العالم المائت عن رحمة الله. وقد طلب منا المسيح في وصيته الكبرى أن نقوم بإرساليتنا إلى العالم فقال: «اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا» (مرقس 16: 15).

ما أكثر ما يتشدق البعض في الإدعاء بأن علاج الرذيلة هو في نظام تربوي شامل ظناً منهم بأن في وسعهم، عن طريق الثقافة العقلية والراحة الفكرية، أن يصبحوا مقدسين وسعداء. ولكن لنفرض أن التعليم عم وشاع وأن العقل تقدم ونما، فهل نضمن الحصول على الفضائل؟ ليتنا ندرك أن المعرفة لم تخلص سليمان من الرذيلة، كما أنها لم تنقذ الشاعر بيرون من مفاسده. لا نكران في وسع الفن والتربية أن يصقلا الذوق، لكنهما لا يستطيعان تنقية القلب أو غفران الخطايا أو تجديد حياة الفرد.

ولسنا نرى أن حاجة عالمنا اليوم هي إلى تعليم أكثر أو ثقافة أوسع، وإنما حاجته إلى حضارة مقرونة بضمير مستنير...

وليست حاجتنا إلى سفن وطائرات وشركات بل إلى منظمات تخلو من كل دنس ووصمة شر ورذيلة... وإني لأوثر أن أعيش في عالم مملوء بالمتوحشين على أن أعيش في عالم تكثر فيه الأبالسة المثقفين. وإني أفضل أن اسكن في قفر موحش على أن أعيش في قصر ملوث بالإثم والرذيلة!كذلك فأنا أفضل آكلي اللحوم الذين يعيشون في مجاهل القارات ومناطق البحار المهجورة على الجوارح الضارية التي تعيش في مدننا المتحضرة.

إن حاجة العالم الماسة هو إلى محبة المسيح، ونعمة المسيح، وسلام المسيح. وهذه كلها تتوفر في الإنجيل. فالإنجيل يقدم للإنسان كل ما يحتاج إليه فالرسالة التي نستطيع حملها إلى العالم المضطرب هي رسالة المحبة. وفي وسعنا أن نريهم الرحمة التي أوضحها لنا المسيح ورحمنا بها، وهذه هي حاجة عالمنا القصوى في هذه الأيام وفي كل الأوقات.