العودة الى الصفحة السابقة
من هو الأعظم

من هو الأعظم

جون نور


سأتحدث في هذه الحلقة من أسماء وأحداث في الكتاب المقدس عن حادثة حصلت مع يسوع وتلاميذه عندما تَقدّم التَلاميذ إلى يَسوع قَائِلين: «فَمَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟» (متّى 18: 1).

«فَدَعَا يَسُوعُ إِلَيْهِ وَلَدًا وَأَقَامَهُ فِي وَسْطِهِمْ وَقَالَ:«اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هذَا الْوَلَدِ فَهُوَ الأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَمَنْ قَبِلَ وَلَدًا وَاحِدًا مِثْلَ هذَا بِاسْمِي فَقَدْ قَبِلَنِي. وَمَنْ أَعْثَرَ أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ الْمُؤْمِنِينَ بِي فَخَيْرٌ لَهُ أَنْ يُعَلَّقَ فِي عُنُقِهِ حَجَرُ الرَّحَى وَيُغْرَقَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ. وَيْلٌ لِلْعَالَمِ مِنَ الْعَثَرَاتِ! فَلاَ بُدَّ أَنْ تَأْتِيَ الْعَثَرَاتُ، وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ! فَإِنْ أَعْثَرَتْكَ يَدُكَ أَوْ رِجْلُكَ فَاقْطَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْرَجَ أَوْ أَقْطَعَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي النَّارِ الأَبَدِيَّةِ وَلَكَ يَدَانِ أَوْ رِجْلاَنِ. وَإِنْ أَعْثَرَتْكَ عَيْنُكَ فَاقْلَعْهَا وَأَلْقِهَا عَنْكَ. خَيْرٌ لَكَ أَنْ تَدْخُلَ الْحَيَاةَ أَعْوَرَ مِنْ أَنْ تُلْقَى فِي جَهَنَّمِ النَّارِ وَلَكَ عَيْنَانِ. «اُنْظُرُوا، لاَ تَحْتَقِرُوا أَحَدَ هؤُلاَءِ الصِّغَارِ، لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلاَئِكَتَهُمْ فِي السَّمَاوَاتِ كُلَّ حِينٍ يَنْظُرُونَ وَجْهَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 1:18 – 10).

كان السُؤال: «مَنْ هُوَ أَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؟» يَدلّ على عدم إدراك التَلاميذ لِمِعنى مَلَكوت السَماوات. وكم كان مُحزِناً لقلب يسوع الأفكار والمُجادلات حول الأعظَم فيهُم. فما زَالوا يُفكّرون في المَلَكوت تَفكيراً أرضِيّاً، يَنبَغي أن يَكونوا هُم رؤوس وَقَادة في هَذِه المَملَكة وهو سَيّد لَهُم، وَيَبدو أنهم كانوا مُقتَنِعين بِخَطأ تَفكيرهم إذ عِندَما سألهم: «ببِمَاذَا كُنْتُمْ تَتَكَالَمُونَ فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الطَّرِيقِ؟ فَسَكَتُوا» (مرقس 9: 33 و34)). لقد أحَسّوا بِالخَجل ولَم يَجِدوا مَا يُدافِعون به عن أنفسهم. لأجل ذلك قال لهم يسوع في بداية إجابته على سؤالهم: «إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا...» (متّى 18: 3) فقد كانوا في احتِياج لِلرجوع وَتَغيير مَسار أفكارهُم السَطحِيّة وَالعَالَمِيّة، حَتّى يَتَمَكنّوا مِن الدخول لِمَلكوت السَمَاوَات.

إن السُؤال يَدلّ على أنانِيّة دَفينة، وافتِخار وشُعور بَالتَمييز عَن الآخرين، وطلب المَنفَعة والمكانة الأفضل، «كل واحد ينظر إلى ما هو لِنَفسِه». وهذه من أشَرّ الخَطايا. وَكُلّنا مُجَربّون بِالوقوع فيها، بَينَما الحَقّ الإلَهي يُعلّمنا كما يقول الكتاب: «فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لا تَنظروا كل واحد إلى مَا هو لِنَفسه، بل كل واحد إلى ما هو لآخرين أيضاً. فليكن فيكم هذا الفِكر الذي في المَسيح يَسوع أيضاً» (فيلبي 2:2 – 5).

انتظر التَلاميذ حُكم المَسيح وَتَسمِيّته وَاحِداً منهم باعتِباره الأعظَم بَينهم، لكنه لم يَفعل. بل أقام وَلدَاً صَغيراً في وَسَطهم لِيَكون أمَامهم مَثلاً ونَموذجاً لِلعَظمة الحَقيقِيّة. وقد قَصَد المَسيح أن يُركّز عَلى الاتضّاع كَنُقطة مِحوَرِية في الطُفولة: « فَمَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مِثْلَ هذَا الْوَلَدِ فَهُوَ الأَعْظَمُ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ» (متّى 18: 4).

الاتّضاع الحَقيقي يَعني أن يَعرِف الإنسان نَفسه، وَيَقبَل نَفسه وَيَكون هو نَفسه لمجد الله. هذا يعني أن تكون نَظرته لنفسه سوية، فلا ينظر إلَيها بازدِراء كَما فَعل موسى «فَقَالَ مُوسَى ِللهِ: «مَنْ أَنَا حَتَّى أَذْهَبَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَحَتَّى أُخْرِجَ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ؟» فَقَالَ: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَهذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هذَا الْجَبَلِ». (خروج 11:3 و12). أو يَنظر إلى نفسه بِتَعالي وَكِبرِياء، كما قال الكتاب المقدس: «فَإِنِّي أَقُولُ بِالنِّعْمَةِ الْمُعْطَاةِ لِي، لِكُلِّ مَنْ هُوَ بَيْنَكُمْ: أَنْ لاَ يَرْتَئِيَ فَوْقَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْتَئِيَ، بَلْ يَرْتَئِيَ إِلَى التَّعَقُّلِ، كَمَا قَسَمَ اللهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِقْدَارًا مِنَ الإِيمَانِ» (رومية 3:12). فالشَخص المُتضِعّ حَقيقة لا ينكر المواهب التي أعطاها الله له لكنه يستخدمها لمجد الله. ويُمكِن أن نرى في الطِفل الطَبيعي الغير مُدَلل السِمات التي تعبر عن الاتّضاع مِثل:

الثِقة: إذ يَثِق الطفل في من هو أكبر منه كالوالدين في تَدبير احتياجاته وكالمُدرّس في تَعليمه. وقد وصف المسيح هَؤلاء الأطفال بِالمؤمنين، أي الوَاثِقين (متّى 6:18).

بِطَبيعته الطفل خَجول، يحب أن يكون في الخَلف، إنه لا يَرغب في الظهور بل يُفضّل الاختِفاء، مع مُلاحَظِة أنه مع تقدّم الأيّام والاحتِكاك بالعالم المَليء بِالتَنافس يَضيع هَذا التَواضع الغَريزي. هذه هي الصورة التي قصد المسيح أن يكون تَلاميذه عَليها. لقد رغبوا أن يَعرِفوا من هو الأعظَم في المَلَكوت، لَكِن المَسيح حَذّرهُم أنه بِدون الاتّضاع فحتى دخولهم للملكوت غير مَمكِن.

الاتّضاع هو طَريق العَظمة الحَقيقِيّة، وهذا الطريق مَليء بِالعَثرات فَليَنتَبِه الإنسان مِن الخَطايا التي تأتيه من نوافِذ جسده كالعين واليد والرِجل، وليتعامل مع هذه الأعضاء كأنها قد قطعت فِعلاً. فَطَريق القَداسة يَستَلزِم لا بتر العضو، لكن إنكار النَفس. وطَريق إتباع المَسيح مُكلِف، وَيَعني حمل الصَليب كُل يَوم، أي رَفض مُمارَسِة الخَطِيّة وَالمَوت عَنها (مرقس 34:8، رومية 13:8، غلاطية 24:5، كولوسي 5:3).

هَذِه هِي تَكلِفة الاتّضاع الذي يَبدأ بِفَحص النَفس ثم إنكارها. «اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي. وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (مزمور 139: 23 و24). «وَكُونُوا جَمِيعًا خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ، وَتَسَرْبَلُوا بِالتَّوَاضُعِ، لأَنَّ: «اللهَ يُقَاوِمُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً». فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ» (1بطرس 5: 5، 6).