العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة الرابعة

التطويبة الرابعة

جون نور


«طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ» (متّى 5: 6).

ترمز الجماعة التي كلمها المسيح في ذلك اليوم القائظ من أيام فلسطين إلى تلك القافلة من الرجال والنساء الذين يمرون عبر الأجيال والقرون على مسرح الحياة. وما قاله المسيح لهؤلاء يقوله لنا الآن، ولجميع الناس على مدى السنين. كان معظم الذين تبعوا المسيح في ذلك الوقت غير متحررين روحياً. كانوا مشتاقين للامتلاء الروحي والارتواء من ماء السماء... لكن إذا كانت النفس غير مرتوية من الله فإن صاحبها يظل يعيش في حالة من العطش الروحي.

لا شك أن كل واحد منا اختبر الجوع في وقت من الأوقات. فالمرء يحس بالألم وبالانقباض ساعة يجوع. وكلنا أيضاً تذوق الجفاف الذي يعانيه الجسد عند التعطش الشديد. من أجل هذا فإن كلمات المسيح التي يوجهها إلى الجياع والعطاش لا بد أن تثير انتباهنا كلنا.

قد نتساءل: وأي سعادة تكمن في العطش والجوع؟ وللجواب على ذلك نقول: لنعلم أن الجوع من علامات الحياة. فالموتى لا يجوعون والجسم المائت لا يحتاج إلى طعام أو ماء. ويعلمنا الكتاب المقدس أن القلب يتحجر بسبب عدم الارتواء والامتلاء الروحي. فإذا كان في القلب جوع لكلمة الله فإنه يميل لسماع صوت المسيح ويتجاوب مع نداء الروح السماوي.

وأما الذين لا يشتاقون لله أو للمسيح، فإنهم ليسوا أمواتاً في الخطية فقط بل غير واعين لأوامر الروح. فهم يبقون في حالة تخدير روحي، قد تقودهم في النهاية إلى الموت الأبدي.

حاول بعض الناس اكتساب رضى ربهم عن طريق تشويه أجسادهم أو تعذيب نفوسهم... وحاول آخرون أن يكتسبوا رضاه عن طريق عيشهم عيشة أخلاقية تامة ظانين أنهم بواسطة ذلك يتبررون، وقد فاتهم أن الكتاب المقدس يعلمنا أن برنا الذاتي لا يجدي نفعاً، وإننا لا نستطيع أن نصنع براً من ذاتنا، ولا أن نتقدس من تلقاء أنفسنا، لأن الأحسن منا هو غير نقي وغير مقدس في عيني الله.

لكن وبالرغم من خطايانا نجد أن الله يحبنا. ومن أجل ذلك هيأ لنا براً عن طريق موت ابنه على خشبة الصليب فداءً عن خطايانا. وهذا معنى صليب المسيح أن الله هيأ لنا براً، وأعد لنا خلاصاً عن هذا الطريق. ولذلك أصبح الصليب رمز المسيحية. ونحن لا نستطيع من أنفسنا أن نحصل على هذا البر. ويقول الرسول بولس: «لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 23:6).

أعزائي المستمعين كثيرون منا ليس لهم شهية للأمور الروحية، وذلك لانغماسهم في المسرات الخاطئة لهذا العالم. يوقعنا بشباكه ويجذبنا بفتنته. وليس ثمة رجل فارغ أكثر من ذاك الذي يعتقد انه ملآن! وليس شخص يشكو المرض أكثر من ذاك المصاب بمرض عضال لكنه يعتقد انه في صحة جيدة. وليس شخص أفقر من ذاك الذي يفكر أنه غني مع أنه مفلس. وكل من هو مملوء من نفسه لا مكان لله عنده. وهكذا نجد أن الاكتفاء الذاتي يفقد كل شهية لله، ويبعد الإنسان عن معرفة الحق.

جميع المسيحيين يؤمنون بالله إنما ليس الكثيرون منهم من يعطي وقتاً لله. فهم مشغولون بأمور الحياة المادية، وليس لهم وقت للتفكير بالله، أو لمطالعة كلمته المقدسة، أو للاهتمام بإخوانهم من بني الإنسان. وهكذا نجدهم قد فقدوا روح التلمذة، وأهملوا الحياة الروحية النافعة لنموهم الروحي واللازمة لإشراق نفوسهم.

ونتيجة لذالك إذا وجهنا السؤال التالي إلى البعض: هل أنتم مسيحيون حقيقيون؟ فكثيراً ما يكون منهم الجواب: إننا نأمل أن نكون هكذا! ألا يكفي أننا نذهب إلى الكنيسة في أيام الأعياد وفي المناسبات الأخرى! أما في غير هذا فليس هناك وقت لنصرفه مع الله. وأمثال هؤلاء قد اخرجوا الله من دائرة أفكارهم. والكتاب المقدس يحذرنا من هذا الإهمال لأمور النفس، ومن هذه القساوة التي تظهر في القلب.وما ينطبق على المسيحيين هنا ينطبق على أتباع الديانات الأخرى. يقول كثيرون: نحن نؤمن بالكنيسة وبالمسيح والكتاب المقدس... أفليس هذا كافياً؟ والجواب هو أن الإيمان وحده لا يكفي بل يجب أن يقرن بالأعمال. من الضروري قبول المسيح مخلصاً شخصياً لكل منا...

وينطبق هذا على الحياة الروحية. فإذا آمنت بالكنيسة وبالكتاب المقدس ولم تقبل المسيح في قلبك، فإيمانك وهمي. ولكن حالما تقبله في قلبك فأنت تولد من جديد وتحصل على حياة جديدة. تحل في قلبك طبيعة الله المقدسة وتستحوذ على نفسك، وبهذا تصبح ابناً لله وشريكاً للعلي في الحياة الروحية.

والسؤال هنا: عزيزي المستمع هل تشتاق إلى مثل هذا الاختبار؟ هل تجوع نفسك إلى مثل هذا الفرح والسلام والرضى؟ وهل تتوق للحصول على ثمار الروح والتي هي: محبة – فرح – سلام – طول أناة – لطف صلاح – إيمان – وداعة – وتعفف...

إذا كان هذا هو نوع الجوع الذي تشعر به فتأكد أن الله سيهبه لك لأنه قادر أن يحقق ما وعدك به. فهو الذي قال: «طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ». الإنسان يجوع إلى الطعام، فيشرق الله بشمسه على الحقول فإذا الحنطة تنمو وتنضج... ثم تتحول إلى دقيق، والدقيق إلى خبز، وهكذا فالله بطريقة خفية يلبي حاجات الإنسان الجسدية...

وخلاصة القول أننا نحظى بسلام القلب وبسكينة النفس متى اعترفنا بجوعنا الروحي العميق وسلمنا نفوسنا بالكلية إلى الله، ونشبع روحياً عندما نكون راغبين أن نحول وجوهنا عن الأمور المصطنعة في هذا العالم بحيث نلتفت إلى المسيح، وننهل من ينبوع مائه الحي – ذلك الماء الذي عندما نشرب منه لا نعطش أبداً...