العودة الى الصفحة السابقة
ميلاد المسيح .. القصة الخالدة

ميلاد المسيح .. القصة الخالدة

جون نور


أدر طرفك ذات اليمين وذات اليسار، لترى في العالم، هنا وهناك، أكداساً من الشر والقسوة والإثم. وكثرة من الأهوال والمتاعب والقلاقل. وتتتبع علة هذه المصائب جميعها. فلا تجدها إلا داخل الإنسان في الطبيعة البشرية ذاتها. فالجوع والخوف والفقر والمرض جاثمة على صدور الملايين، لا لأن الأرض قد شحت بخيراتها. بل لأن حماقة البشر وأنانيتهم ومنازعاتهم وكراهيتهم - هذه كلها قد توالدت ونشطت فأنبتت مرارة وعلقماً.

إن المفكرين في العالم على يقين من أن تغيير المظاهر الخارجية في الحياة، وترقية أسباب الثقافة والتعليم، ومحاولة إزالة الأعراض الظاهرة للفقر والمرض والخوف تفشل فشلاً ذريعاً إذا بقي القلب الداخلي كما هو دون تغيير؟ لقد ملكنا السيطرة على كل قوة في العالم ما عدا الطبيعة البشرية. لقد أفلحنا في ترويض كل القوى الكامنة ما عدا أنفسنا. فهل قضي على كل آمالنا وأحلامنا، ومقاصدنا النبيلة ومثلنا العليا - أن تتحطم على صخرة الطبيعة البشرية هذه؟ إن رسالة المسيحية تحدثنا بأن الله قد غيّر من قبل - وهو يغيّر اليوم - الطبائع البشرية. وميلاد المسيح هو الخطوة الحاسمة التي بدأ بها الله عملية التغيير والتبديل.

في ميلاد المسيح قد لمس الله الطبيعة البشرية لمسة عرف بها الإنسان معرفة حقة. ومن الأقوال الدارجة: «العلم عند الله». نقولها بنغمة مستسلمة للقضاء والقدر. وكأنما الآلام والأمراض والمجاعات، وأفراح البشر ودموعهم، يعرفها الله وحده، وهو منفصل عن الناس، ناء عنهم، لا تربطهم به صلة. ولله ملك السماوات والأرض، وهو غني لا يفتقر إلى شيء، فكيف يعرف الفاقة والعوز، والراحة والشبع؟ كيف يعرف الضعف والتعب، وعلل الجسد البشري وويلاته، وأشواقه الملحة، ومخاوفه المستكنة، ورغباته العميقة؟ الله يرى النهاية من البداية، ومخارج الحياة معروفة لديه، فكيف يعرف عمانا وجهلنا، وضلالتنا وطيشنا؟ الله قدوس، فكيف يعرف معنى التجربة القاسية التي تكتسح الإنسان أمامها، وتمتص قوة مقاومته؟ إن ألم الجسد، وعذاب العقل، وكربة الروح، هي الحقائق الوحيدة التي يعرفها كثيرون من الناس، فكيف تكون هذه حقيقية عند الله؟ كيف يعرف الله؟!

إن ميلاده يقطع السبيل على كل قائل: «إن الله لن يقدر أن ينزل إلى حيث أنا، ولا يقدر أن يشاطرني الغمة التي أعانيها» ، وذلك لأن المسيح - كلمة الله وروحه - قد هبط إلى الأرض، وولد في أحقر مستوى للبشرية، وامتزجت أنفاس طفولته بأنفاس البهائم والحيوانات. لم يتخذ المسيح الجسد البشري كرداء من أردية التنكر والتهريج، كما يفعل الناس عادة في بعض حالات المجون والتلهي - بل قد صار جسداً حقاً.

في مجيئه لمس الله الطبيعة البشرية لمسة خلعت عليها قدسية وكرامة. ويوم ولد المسيح كان الناس يفرقون تفريقاً صارخاً بين ما هو مقدس، وبين ما هو دنيوي. ولأنهم نظروا إلى الأشياء وإلى الناس هذه النظرات المتفاوتة، كانت الحياة العادية بما فيها من أوضاع، تافهة مملة غير مقدسة، وفقد الناس الشعور بقوة الله وعنايته بهم.

ميلاد المسيح هو القصة الخالدة التي تحدثنا عن الله وهو يتخطى كل هذه الحواجز التي اصطنعها البشر، ويلمس بيديه - البشريتين والإلهيتين - كل أشياء الحياة العادية: علف البهائم في المذود، نشارة الأخشاب في الحظيرة، الأدوات والآلات التي يعمل بها الكادحون في سبيل لقمة العيش المغموسة بالعرق، بذار الزارعين ومناجل الحاصدين، زورق الصياد وشباكه، عجين المرأة وخبزها، ورتق الملابس وترقيعها - هذه كلها قد لمستها يده فأحالتها مقدسة كريمة. «كلمة» الله الذي صار جسداً وحل بين الناس، هو الذي قدس الطفولة والبيت، وأوقات العمل والفراغ، وكل شأن من شئون الحياة التي يغرق فيها الناس، ومن أجلها يكافحون ويتألمون. فما أحوجنا في هذا العصر إلى أن نسترد هذا الشعور الرقيق الذي ينظر إلى توافه الحياة العادية نظرة مقدسة، في عالم مادي قاس، يتدافع فيه الناس بالمناكب، ويقيسون فيه الأشياء بمقاييس مادية خاطئة…

في ميلاده لمس الله الطبيعة البشرية لمسة مجددة، بدلت كل شيء. إن قصة حياة يسوع كلها، هي قصة المحبة، من المهد إلى الصليب، ويوم الميلاد هو الفصل الأول في رواية لم تنته فصولها بعد، فيها لمس الله الطبيعة البشرية الضعيفة الواهنة، فجددها في كل موضع لمسها فيها… لمس المريض فأبرأه من علته، ولمس الأعمى فأعاد إليه نعمة البصر ولمس العاجز المقعد فغدا يهرول فرحاً طروباً، ولمس اليائس الكليل فلمعت عيناه بنور الرجاء، ولمس الخاطئ فهلل أمام أعجوبة الفداء… تناول منشفة ووعاء من الماء، فجعل من الخدمة الوضيعة الحقيرة نموذجاً للكرامة والعظمة. وأخذا خبزاً عادياً بين يديه، فأحاله سراً مقدساً، ولمس الصليب الخشبي فجعله رمزاً للانتصار وشعاراً للمجد والفخار، ولمس الموت ذاته، فكسر شوكته وجعله باباً للبقاء والخلود. نعم جدد كل شيء لمسته يداه…

ولما صار جسداً، توج الجسد البشري بتاج من العزة والكرامة، وازدانت الطبيعة البشرية بأكاليل المجد والعظمة. وقد علم الناس كيف يرون الله تماماً، لا في مجد شروق الشمس وروعة غروبها، ولا في عجائب القبة الزرقاء، ولا في جمال الكون وتنسيقه، بل في شخصية بشرية. ويعلن لنا التجسد في هذا العصر الذي كدنا نيأس فيه من طبيعتنا البشرية، إن في هذه الطبيعة عينها يمكن أن نرى الله أكثر من أي شيء آخر في الكون. وكيف نيأس، وقد كلمنا الله في كلمته! وكل عام وانتم بخير.