العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة الثالثة

التطويبة الثالثة

جون نور


«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ» (متّى 5: 5).

يسعى الكثيرون منا وراء السعادة بانتهاج طرق مختصرة. وكثيراً ما نروم الحصول على الرضى الروحي بطريق سطحي لا بالذهاب إلى العمق، حيث تكثر الكنوز، فمن الطبيعي أن يسلك الإنسان طريقاً لا يبذل فيه جهداً أو مقاومة، متناسياً أن النور والحرارة هما نتيجة الجهد والمقاومة. وهذه المقاومة هي التي تطلق القوى الكامنة في الحياة.

ونحن حيال هذه التطويبات نقف أمام منجم مليء بالذهب الروحي. وما أكثر الذين يسيرون فوق سطح الحياة وهم يلتقطون النفايات ويتطلعون إلى الأمور العابرة كأنها كنوز ثمينة! يهملون البحث عن أسرار الحياة القيّمة، فيفقدون مفتاح الحياة المشرقة السعيدة، ويظلون فقراء يتمرغون في حمأة تعاستهم التي هي من صنع أيديهم.

اعزائي المستمعين ما كان الله ليرسل ابنه إلى العالم لو كان الإنسان قادراً أن يواجه أمور الحياة الأبدية لوحده. ومجيء المسيح لعالمنا برهان على أن الآب السماوي لم يكن راضياً عن شقاء البشر وتعاستهم. لقد أرسل الله ابنه للعالم ليس فقط لكي تكون لنا الحياة الأبدية بل لكي تكون لنا الآن حياة، حياة دافقة سامية، لكي تكون لنا الحياة الفضلى.

إن المسيح يوجه الطوبى للودعاء، فيعدهم بميراث الأرض. ربما لا يخطر على بالنا أن هناك سعادة في الوداعة. وهل الوداعة التي عناها المسيح أن يكون أتباعه خاضعين للآخرين؟ أو هل تتأتى السعادة نتيجة لخضوع قسري؟ لم يحاول المسيح أن يصور لنا الله كشخص مستبد، لا يرضى إلا بالخضوع القسري..!

ترك الله لنا باب الاختيار مفتوحاً. وهو لا يريد أن يضيق علينا حريتنا، بل يدع لنا حرية الاختيار بين الحياة الأبدية أو الموت الروحي. فعلينا أن نميز بين الخير والشر، الحق والباطل. وما كان غرض الله تمجيد نفسه فقط، بل الدخول في علاقة سعيدة مع الإنسان الذي هو زينة المخلوقات. ولن يطلب الله أبداً من الإنسان أموراً تحد من حريته واختياره.

ما قاله المسيح: «كونوا ودعاء فترثوا الأرض» . فالمسيح عرف أكثر من غيره أن الوداعة هي هبة من الله، وأنها تتأتى نتيجة للولادة الجديدة. لانه ليس من طبيعة البشر أن يكونوا ودعاء، بل على النقيض فإن طبيعتهم تحملهم على التكبر والتفاخر. من أجل هذا كانت الولادة الثانية ضرورية لكل واحد منا. ومن هنا منشأ الوداعة. إنها تبدأ من حيث يبدأ التغيير في حياتنا.

فإذا كنت تبغي هذه السعادة، فعليك أن تولد ولادة ثانية. هذه هي الخطوة الأولى، ولا يمكنك أن تحقق الخطوة الثانية وتحصل على ميراث الأرض ما لم تتخذ الخطوة الأولى وتحققها.. إن النحلة التي تلدغ كائناً آخر تؤذي نفسها أكثر مما تؤذي ذلك الكائن الملدوغ. ونحن نعرف أن النحلة تموت عقب إتمام عملية اللدغ.

لم يقل المسيح: عليكم أن تكونوا حكماء لأن هذا هو طريق الحياة. بل قال: إن رغبتم أن تهتدوا إلى سر السعادة أو إذا أردتم أن تتلذذوا في الحياة – فالوداعة مفتاح أساسي لها.

الوداعة تعني اللطف: لم تستعمل كلمة اللطف قبل العصر المسيحي إلا نادراً. فهذه الصفة الخلقية العالية إنما هي نتاج المسيحية وعمل من أعمالها. غير أنه من المؤسف أن نرى العالم في الآونة الأخيرة يعود إلى شكل من البربرية والهمجية. وحالما ضعفت المسيحية العملية ازدادت القساوة والروح البربرية. وتظهر هذه القسوة في الحروب الدامية التي تثأر. وهذه التصرفات تترك بلا ريب أثراً قوياً على الأفراد في المجتمع.

معنى آخر للوداعة وهو أن يكون المرء أليفاً: الحصان الهزيل والأليف أفيد للحياة من الحمار البري. وكل طاقة غير مراقبة تكون خطرة، في حين أن الطاقة التي توضع تحت المراقبة تغدو قوية. إن الله لا يعلمنا النظام ليستعبدنا، بل ليوجه حياتنا للخير وللبركة. وهو بحكمته يعلم أن كل حياة غير منظمة ومتروكة بدون مراقبة تكون حياة تعسة وشقية. لذلك نجده يضع بعض القيود على نزوات النفس، ليسيرها في طريق البر والصلاح. والله بعمله هذا إنما يحاول تدجيننا ووضعنا تحت المراقبة. وهو يعمل في العالم الروحي ما يعمله العلماء في العالم الطبيعي. لذا كثيرون هم نزلاء مستشفيات الأمراض العقلية ذلك لأنهم فكروا بأنفسهم، وجعلوا الله أن يكون خارجاً عن دائرة حياتهم.

عزيزي المستمع للإنسان صوت ولسان، وفي وسعه أن يستعملهما للخير أو للشر. في وسعه أن يستعمل لسانه للقتال وللمسبة ، كما أنه يقدر في الوقت ذاته أن يجعله مفيداً ونافعاً وأداة لحمد الله وتسبيحه. ويقول الرسول يعقوب: «هُوَذَا الْخَيْلُ، نَضَعُ اللُّجُمَ فِي أَفْوَاهِهَا لِكَيْ تُطَاوِعَنَا، فَنُدِيرَ جِسْمَهَا كُلَّهُ» (يعقوب 3: 3).

إن أهل العالم يعتقدون أن المسيحية ديانه عظيمة، ولكن الأمر المؤسف أن المسيحيين أخفقوا في تزيين هذه العقيدة بالعيشة الوادعة والصبورة. وعندما قال المسيح: طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض إنما عنى بقوله: أولئك المنكسري القلب والمتواضعين والمعتمدين على الله. فهؤلاء يرثون الأرض ويتمتعون بالفرح والرضى، ويتحلون بالإشراق وبروح الاستبشار.

قال يسوع لهؤلاء الودعاء : احملوا نيري. النير نيره، ولنا أن نثق ملء الثقة بأنه سيحمل أكثر الحمل. إن يسوع، قبل أن يترك عالمنا صرّح لنا بأنه سيرسل لنا المعزي ليساندنا في صعوباتنا وتجارب حياتنا. وليس هذا المعزي سوى الروح القدس الذي هو الأقنوم الثالث.. وفي اللحظة التي نولد فيها من جديد، يأتي هذا الروح ويسكن في قلوبنا. وربما لا نشعر به عاطفياً إنما علينا أن نقبل ذلك الروح عن طريق الإيمان.

فليسلم الإنسان كل نفسه له، وليعط القيادة لله ليتسلم هو دفة حياته. ومن يفعل ذلك يجد، بواسطة الوداعة التي ينالها من الروح القدس، السعادة التي عناها المسيح عندما قال: «طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ».