العودة الى الصفحة السابقة
التطويبة الثانية

التطويبة الثانية

جون نور


«طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» (متّى 5: 4).

تأتي أوقات في حياتنا عندما لا تعود عبارات التشجيع تنفع. فقولنا: «أفرح يا أخي وتشجع» كلمات لا يعود لها مفعولها، ولا تستطيع أن تنقذ الحزين الغارق في غمرة أحزانه. ولأن حاجتنا هي إلى شيء أعمق مما نستطيع تقديمه عن طريق المنطق أو علم النفس، فإن التعابير التي نستمدها في هذه النواحي تجعلنا نشعر بقصور أشد وبحاجة أعمق.

تبدو كلمات التطويبة الثانية لأول وهلة بأن فيها تناقضاً، إذ كيف يمكن الجمع بين الفرح والبكاء؟ وهل في استطاعة امرئ أن يكون سعيداً، والأحزان تحيط به؟ وكيف يتسنى له أن يستخلص عبير السرور من بؤرة الأحزان المريرة؟

ما عناه المسيح كان ذا معنى أعمق. فالمسيح عندما نطق بهذه الكلمات إنما عناها لكل الناس، ولكل الأجيال. وبها أراد أن يكشف للبشر عن سر السعادة الحقيقي. ولسنا نقول أن هذا العصر هو عصر الحزن إنما في وسعه أن يدخل التاريخ كعصر يمتاز بالتفكير السطحي. وهذا يشبه ما أظهره الفريسيون في عصر المسيح فقد مسحوا وجوههم بالرماد ليظهروا بأنهم متدينون. لكن المسيح وبخهم قائلاً: «لا تكونوا عابسين كالمرائين».

ولنتناول كلمة حزن.. فهي تعني الشعور بالحزن العميق مع إظهار اهتمام أعظم لبعض الأمور وهذا يعني أننا إذا رمنا أن نعيش على مستوى أعلى فعلينا أن نكون أشد حساسية، وأكثر وعياً لحاجات الناس، وحاجات هذا العالم.

كثيراً ما تكشف لنا الاختبارات بأننا مقصرون. والتاريخ يشير إلى ذلك، كما أن الكتاب المقدس يصرّح بأن الإنسان غير كفؤ لأن يخلص نفسه.

ومعنى هذا إدراكنا بأننا خطاة. ونحن كأفراد ليس لنا سلطة على الخطية في هذا الكون، ولكن بصفتنا مخلوقات عاقلة لها حرية الاختيار نحن مسؤولون عن وجود الخطية في حياتنا. ويقول الكتاب المقدس: «إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ» (رومية 3: 23)، ولذلك فجميعنا نحتاج أن نحزن من أجل الخطية في حياتنا.

ولا يعني حزن التوبة البكاء والتحسر على أمور مادية خسرناها، ولا الفضيحة التي لحقت بنا بسبب انكشاف خطايانا، وإنما حزن التوبة يعني تغييراً في الاتجاه وتبديلاً في الميول وتسليماً للإرادة. فهذا هو دورنا الصغير الذي نستطيع أن نلعبه في خطة الخلاص. ولا تضمن لنا عملية التوبة الخلاص، وإنما تمهد لذلك بأن تجعل القلب مستعداً لقبول نعمة الله. ويقول سفر الأعمال: «تُوبُوا وَارْجِعُوا لِكَيْ تَأْتِيَ أَوْقَاتُ الْفَرَجِ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ» (أعمال الرسل 3: 19). على الفرد أن يتوب ويرجع إلى الله، ونعمة المسيح تضمن له التغيير والتجديد والغفران...

لقد بكى المسيح عند قبر لعازر، حبيبه، وبكى على أورشليم، المدينة التي لم تعد تقيم وزناً للأمور الروحية. حقاً إن قلب المسيح كان دوماً حساساً ومستيقظاً لحاجات الناس. ولكي يؤكد المسيح أهمية محبة الله للإنسان وضع الوصية القديمة بشكل جديد فقال: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ قُدْرَتِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ، وَقَرِيبَكَ مِثْلَ نَفْسِكَ». (لوقا 27:10).

ان الدموع التي نذرفها حزناً على أنفسنا هي دموع الضعف، أما الدموع التي نذرفها من أجل الآخرين فهي دموع القوة. ولا يكون الإنسان حساساً كما يجب، إذا لم يتعلم أن يشارك الآخرين حزنهم، ويشاطرهم الإحساس في حالات الشقاء، وفي أوقات سوء الطالع وقسوة الأيام.

إن الله لم يعد أبناءه أن يعطيهم مناعة ضد الحزن والألم. إن عالمنا هو وادي الدموع والشقاء. والمصاعب ضرورية للحياة، وهي مثل الغيوم والظلال. والألم محك للإيمان. وأولئك الذين يخرجون من أتون الآلام يتنقون، مثلما يتنقى الذهب وسط النيران المتأججة. ففي البكاء والنواح تعزية لأن الله يهبنا ترنيمة فرح وسط البكاء. فوجود المسيح في وسطنا يبدل نواحنا إلى ترنيمة.

قبل أن تكتشف قوة الذرة كان على العالم أن يجد طريقة لتحطيمها. فسر قوة الذرة يكمن في تحطيمها. وهكذا فنحن في حياتنا نجد بركة عن طريق النواح. والنفوس الحساسة تنبع منها أعذب أناشيد وأروع الترانيم. شتان بين نقيق الضفادع وتغريد الكنار! فالضفدعة أقل حساسية للألم وللبرد وللرياح. وهذه حقيقة نجدها في ناموس الحياة وتطور الأحياء. فكلما ترقى المخلوق ازدادت حساسيته تجاه الألم.

قال أحدهم: يسير الألم والنجاح جنباً إلى جنب. فإذا أحرزت نجاحاً بدون ألم فذلك لأن إنساناً من قبلك قد تألم. وإذا تألمت بدون نجاح فذلك لأن من يأتون بعدك سوف يحرزون النجاح.

طوبى للحزانى! إنهم سعداء لأنهم يعرفون أن ألمهم، وشقاءهم وحرمانهم هي بكاء الخليقة الجديدة. إنهم سعداء لأنهم يعرفون أن الفنان العظيم – الذي هو الله – يستعمل النور والظلال ليخرج قطعة فنية جديدة منهم.

إنهم يفتخرون بضعفاتهم، ويبتسمون وسط دموعهم، ويرتلون ترتيلة مقدسة وسط آلامهم لأنهم يدركون أنهم مع الله وإن الله معهم ويقول الإنجيل: «إِنْ كُنَّا نَصْبِرُ فَسَنَمْلِكُ أَيْضًا مَعَهُ» (2تيموثاوس 2: 12).