العودة الى الصفحة السابقة
مقدمة العظة على الجبل

مقدمة العظة على الجبل

جون نور


أمامنا ثمانية تطويبات قدمها الرب يسوع في موعظته على الجبل تستعرض السعادة على ضوء هذه التطويبات وسوف نتابعها في الحلقات القادمة وإنني اقدمها لمستمعي الكرام سائلا المولى أن تنير لهم الحقائق وتهديهم سواء السبيل إلى السعادة التي ما بعدها من سعادة قال يسوع:

«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»

«طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ»

«طُوبَى لِلْوُدَعَاءِ، لأَنَّهُمْ يَرِثُونَ الأَرْضَ»

«طُوبَى لِلْجِيَاعِ وَالْعِطَاشِ إِلَى الْبِرِّ، لأَنَّهُمْ يُشْبَعُونَ»

«طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ»

«طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ»

«طُوبَى لِصَانِعِي السَّلاَمِ، لأَنَّهُمْ أَبْنَاءَ اللهِ يُدْعَوْنَ»

«طُوبَى لِلْمَطْرُودِينَ مِنْ أَجْلِ الْبِرِّ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 3 - 10).

التطويبة الأولى:

«طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ»

ألقيت العظة على الجبل لنوعين من الناس: هم التلاميذ والجماهير. لذلك هي تحوي بعض المعاني لتلاميذ المسيح وللجماهير. وقد أعطت هذه العظة التلاميذ نظرة روحية لتريهم الوطن الموعودين به فيعيشوا فيه كأتباع المسيح. كما أنها أظهرت لهم المستوى الرفيع الذي يتحتم عليهم أن يعيشوا فيه ويرتقوا إليه وكشفت هذه العظة للجماهير المطاليب التي تفرض على أتباع المسيح. فالمسيح حتى ذلك الوقت كان ينظر إليه كشخصية فريدة وكصانع للعجائب. ذلك لأن شخصيته كانت قوية كالمغناطيس، وكيانه يدل على أنه صاحب قوة خارقة.

أجل بدأ المسيح معلماً ممتازاً ومناظراً قوياً وقائداً عطوفاً – أنه كان من أرق الناس عطفاً ومن أصلبهم عوداً. ولم يسمع معاصروه إنساناً يتكلم مثله لأنه تكلم كصاحب سلطان. وما أكثر ما استجاب هؤلاء الناس إلى هذا الجليلي لأن حياتهم كانت مقفرة وتسير على شكل روتيني رتيب. لقد اختبروا وهم يتبعونه إلى القرى اختباراً عجيباً، ورأوه يشفي المرضى ويبارك الأولاد ويتحدث عن ملكوت الله.

وقد خابت آمال الكثيرين ممن رافقوه، لأن الدين في نظر هؤلاء كان مجموعة من الطقوس والمراسيم، الحاوية الكثير من الخرافات التي لا قيمة لها. وقد نسي هؤلاء معنى السعادة، فما كان من المسيح أن أعمل على إعادة بوارقها إلى مسامعهم، وسعى لإدخالها إلى قلوبهم، وإلى حياتهم.

لقد كانت أول كلمة تفوه بها المسيح في تلك العظة هي «طوبى». وهذه تعني سعيد أو مبارك. وهل هناك كلمة مناسبة أكثر من هذه الكلمة ليبدأ بها عظته، لا سيما وأن السامعين في ذلك الوقت لم يكونوا سعداء. إنهم كانوا مغررين بالإمبراطورية الرومانية، ومستعبدين للسلطات الحاكمة، وبالتالي فإن معظمهم كانوا من الفقراء والمعوزين. كانوا عبيداً لدولة أجنبية، وكانت حياتهم خالية من كل رجاء. وهل في وسع أناس كهؤلاء أن يكونوا سعداء في دنياهم أو مرتضين بحياتهم؟

وأتبع المسيح كلمة طوبى بكلمات أخرى، فقال: طوبى للمساكين بالروح. ولو لم يقل المسيح «بالروح» لكان السامعون قد فرحوا، ولكنه أردفها بكلمة «الروح». وفي هذه الكلمات الخفية نستطيع أن نتعرف على مفتاح السعادة ونعرف سرها.

أورد يسوع قصة مؤثرة عن ذاك الشخص الذي كانت له فكرة خاطئة عن الغنى والفقر. قال هذا الرجل الغبي لنفسه في هداة الليل: «يَا نَفْسُ لَكِ خَيْرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مَوْضُوعَةٌ لِسِنِينَ كَثِيرَةٍ. اِسْتَرِيحِي وَكُلِي وَاشْرَبِي وَافْرَحِي!» (لوقا 12: 19). لم يخطر قط بباله أن نفسه لا تعيش على الخيرات، وإن قلبه لا يتغذى على الخمر والطعام. ولذلك جاءه جواب من عند ربه قائلاً: « يَا غَبِيُّ! هذِهِ اللَّيْلَةَ تُطْلَبُ نَفْسُكَ مِنْكَ، فَهذِهِ الَّتِي أَعْدَدْتَهَا لِمَنْ تَكُونُ؟ هكَذَا الَّذِي يَكْنِزُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ هُوَ غَنِيًّا ِللهِ» (لوقا 12: 20 و21).

إن أول درجة للحظوة بالله هي: معرفة الإنسان لفقرة الروحي. والفقراء بالروح لا يقيسون قيمة الحياة بالممتلكات الأرضية بل بالقيم الأبدية الخالدة. وحكيم هو الشخص الذي يدرك فقره الروحي، وبقلب متواضع خاشع يصرخ قائلاً: ارحمني أيها الرب أنا الخاطئ!

ولنفرض أنه توفر علاج شامل لخطايا البشر السابقة ومساوئهم، ولنفرض أنه عن طريق هذه الأعجوبة يمكن تسوية أخطاء الماضي ومشكلات العالم وإصلاح الخيوط المقطعة التي ترتبط دنيانا، أفلا يكون مثل هذا العلاج أعجوبة حقاً، وسبباً لهزيمة شاملة؟

وأعظم بشرى نزفها إلى عالمنا هي أن مثل هذا العلاج متوفر! فعن طريق هذا العلاج يتسنى للإنسان أن ينال غفران خطاياه، وأن تزال خيوط العناكب التي حيكت حوله، وأن يتبدد كل اضطراب أو بلبلة في الحياة بحيث تستبدل بالفرح والرضى والسعادة. كما أن هذا العلاج يستطيع منح سلام للنفوس بدون الاعتماد على الظروف الخارجية.

ولنذكر أن علاجاً مثل هذا قد أعده لنا يسوع المسيح قبل ألفي سنة على صليب الجلجثة. وها نحن نرى صليباً يرتفع فوق كل كنيسة في العالم. فما معنى هذا؟ إن معنى هذا هو أن الصليب أصبح شعار المسيحية. وقد سفك المسيح دمه على الصليب ليكون الدواء الناجع لجميع الخطاة الذين يستفيقون على فقرهم الروحي ويقبلون المسيح سيداً ورباً ومخلصاً.

ولما كان الله مسؤولاً عن حياتنا، فنحن مدعوون لأن نلقي كل همومنا عليه. فهو أبونا السماوي الذي يهتم بنا ويلبي حاجاتنا. وعندما نعتمد على الله، فنفوسنا لا تضطرب أو تقلق. ويقول يسوع: «لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ. أَنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ فَآمِنُوا بِي» (يوحنا 14: 1).

المسكين بالروح ينكر ذاته فيخدم بهذا النكران المسيح خدمة أسمى. والمساكين بالروح يستعدون أن يعملوا ما قاله المسيح لهم: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعْنِي» (متّى 16: 24).

وهكذا يتحقق القول: «طُوبَى لِلْمَسَاكِينِ بِالرُّوحِ، لأَنَّ لَهُمْ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ».