العودة الى الصفحة السابقة
مرثــا

مرثــا

جون نور


«38 وَفِيمَا هُمْ سَائِرُونَ دَخَلَ قَرْيَةً، فَقَبِلَتْهُ امْرَأَةٌ اسْمُهَا مَرْثَا فِي بَيْتِهَا. 39 وَكَانَتْ لِهذِهِ أُخْتٌ تُدْعَى مَرْيَمَ، الَّتِي جَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ. 40 وَأَمَّا مَرْثَا فَكَانَتْ مُرْتَبِكَةً فِي خِدْمَةٍ كَثِيرَةٍ. فَوَقَفَتْ وَقَالَتْ: «يَا رَبُّ، أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!» (لوقا 10: 38 – 40)

من المسلَّم به أنه ليس من السهل معالجة قصة مرثا منفصلة عن قصة أختها مريم، ففي الصور الثلاث التي يرسمها العهد الجديد عنهما نجدهما معاً. ومع ذلك فإنهما متميزتان الواحدة عن الأخرى، كما أن معاملة ربنا لكل منهما قد اختلفت تبعاً لهذا. ولذلك فسنأخذ قصة كل منهما على حدة، وإن كان من الضروري أن نلقي نظرة على مريم ونحن ندرس قصة مرثا.

وإذ نتطلع إلى مرثا في يوم الرخاء والسرور نراها منهمكة كمضيفة، يصفها البشير لوقا بقوله «وامرأة اسمها مرثا قبلته في بيتها». ولا ذكر لأخيها إليعازر، فواضح أن مرثا كانت ربة البيت وهي التي تستقبل الناس في بيتها، ونراها تستقبل يسوع في بيتها، وتبذل قصارى جهدها لتجعل زيارته بهجة جميلة... وبسبب اهتمامها العظيم كمضيفة، يخيب ظنها لأنها لم تستطع أن تعمل كل ما تريده وترغب فيه. وفجأة نرى مريم التي كانت تساعدها ولكنها تركتها، والتي وصفتها بقولها «تركتني أخدم وحدي»، نراها وقد جلست عن قدمي يسوع. فتغضب عليها أولاً. ثم تتحول في غضبها إلى الشخص الذي كانت تجتهد في الترحيب به. وهذه صورة مرثا كما نراها في اليوم الأول، المضيفة التي خاب أملها، فأتت إلى حضرة يسوع قائلة «أَمَا تُبَالِي بِأَنَّ أُخْتِي قَدْ تَرَكَتْنِي أَخْدُمُ وَحْدِي؟ فَقُلْ لَهَا أَنْ تُعِينَنِي!» (لوقا 40:10).

الصورة التي نراها في مرثا يوم فقدت أخاها. تجعلنا نتصور المجهود المتواصل والخدمة المستمرة التي قامت بها مرثا أثناء مرض أخيها. وأتت الساعة التي لا تفيد فيها الخدمة شيئاً. ولا يمكن أن تعمل شيئاً. فأخوها قد مات. وبالإضافة إلى حزنها العميق أحسَّت بعذاب الهجران من صديقها الصدوق. فأرسلت مع أختها مريم إلى يسوع الذي كان على الجانب الآخر من الأردن تخبره: «بأن الذي تحبه قد مات»

كما نرى في قصة مرثا المرأة الأمينة التي تجرأت على أن تنتقد يسوع ومريم في اليوم الأول لزيارته لهم. وهي التي بقيت أمينة في يوم الكارثة التي حلَّت بها، عندما نطق يسوع بإعلانه العظيم: إنه هو القيامة والحياة ومن آمن به ولو مات فسيحيا، وسألها: يسوع أتؤمنين بهذا؟ أجابت «نعم يا سيد». ثم أردفت قائلة: أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم. وكانت قد سبقت وقالت له: «الآنَ أَيْضًا أَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ مَا تَطْلُبُ مِنَ اللهِ يُعْطِيكَ اللهُ إِيَّاهُ» (يوحنا22:11).

نرى مرثا امرأة تتصف بالعقلانية. ففي يوم النور والفرح ترى أنه ليس من المعقول أن تتركها مريم تخدم وحدها. وتظهر عقلانيتها في حديثها مع يسوع في يوم الكارثة، كما أنها في يوم الغموض اكتفت بالخدمة الهادئة الساكنة. وهكذا نرى مرثا امرأة محبة، أمينة، عقلانية.

في ذلك البيت وجد يسوع مرثا منهمكة في خدمة حبية لترحب به ترحيباً يليق به. ثم ظهرت أمامه شكواها. ونلاحظ أول كل شيء أن يسوع لم يوجه لها أية كلمة توبيخ، وأنه لم يكن غاضباً عليها، وأصغى إلى ما كانت تقول. ثم خاطبها بطريقته الرقيقة «مرثا. مرثا». لأنها كانت مشتتة ومرتبكة ومنهمكة. وذلك لأنها كانت مشغولة «بأمور كثيرة» ونسيت – الشيء الواحد.

وهنا نرهف الآذان ونحن نستمع إلى يسوع يقول: «الحاجة إلى واحد». والواقع أن ربنا لم يعترض على «الأمور الكثيرة بل أشار إلى عوزها للشيء الواحد». كانت مريم متنبهة لهذا الأمر، وأخذت وقتها للتعبد له بالجلوس عند قدميه. أما مرثا فكانت حائرة لا بسبب «الأمور الكثيرة»، ولكن لأن هذه الأمور لم تكن في مكانها الصحيح بالنسبة «للشيء الواحد». لتفعل المحبة أمورها الكثيرة، ولكن ليكن مجهودها تحت سيادة الشيء الواحد، وهو التلمذة للمسيح. فاه ربنا بتلك الكلمات العجيبة التي لم تفهمها مرثا تماماً حينذاك. ومع ذلك قالها لها يسوع فغمرها بالنور، النور الذي ينير كل نفس. قال يسوع:

«أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا» (يوحنا 11: 25). وهذا يعني أن من آمن بالمسيح فهو لا يزال حياً حتى وإن مات. فالموت حقيقة أرضية ولكن الإنسان لا يموت. والتشديد هنا على للعبارة: مَن كان حياً وآمن بي فلن يموت.

نتعلم من هذه القصة أن الضيافة الحقيقية التي تقدم ليسوع هي التي تأتيه من نفس ضيوفه. فإن أردت أن أستضيف يسوع يجب أن أكون ضيفه أيضاً فقد قال يسوع:

«هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي» (رؤيا 20:3). وهذه هي الشركة التامة معه، أولاً أن نكون مضيفين ليسوع، ثم بعد ذلك نصبح ضيوفه.

فيا أيها النور الحقيقي أشرق على قلوبنا وأنر ظلامنا.

ويا من له كل الخير اجعلنا مستحقين أن نكون ضيوفك.

ونأخذ منك ما نستطيع أن نقدمه لك، عندما نقبلك في حياتنا.