العودة الى الصفحة السابقة
تومـــا

تومـــا

جون نور


الكلمة «توما» مشتقة من أصل آرامي، ومعناها «التوأم». وهذا هو اللقب الذي كان معروفاً به في آسيا الصغرى التي عاش فيها يوحنا البشير. ولم يذكر متّى ومرقس ولوقا اسمه إلا مرة واحدة كما فعلوا مع فيلبس. وقد ذكره لوقا في إنجيله وفي سفر الأعمال. وهو يذكر بين الإثني عشر، لأن السيد هو الذي اصطفاه، وهو الذي عَّينه. ويذكر توما خمس مرات في إنجيل يوحنا، وفي ثلاث منها كان ذكره في مناسبات كئيبة محزنة.

كان توما مع زملائه في رفقة يسوع عبر نهر الأردن يوم تلقوا نبأ مرض لعازر. وكان توما هناك أيضاً ساعة ورود النبأ الأخير بأنه قد مات. وإذ يتلقى ربنا هذا النبأ، يعتزم أن ينطلق إلى اليهودية، وقد بذل تلاميذه أقصى الجهد لحمله على العدول عن هذه المغامرة، بعد إن عرفوا موقف اليهود تجاهه، وخشوا أن يظفروا به، فيلقوا عليه القبض ويقتلوه. وهنا يقول توما: «لِنَذْهَبْ نَحْنُ أَيْضًا لِكَيْ نَمُوتَ مَعَهُ!» (يوحنا 11: 16). هذه نغمة المحبة التي ليس حسب المعرفة، ولغة الصراحة والعزيمة.

ثم نرى توما مرة أخرى، يوم كان يلقي يسوع تعاليمه الوداعية على التلاميذ، ويكشف لهم عن نفسه، وعن مصيره المحتوم. وقد تعلق القسم الأول من تلك التعاليم بالصعاب والمشاكل التي سيلقاها الرسل، وقد احتاروا من جراء الظروف التي ستكتنفهم، وداعب الاضطراب الفكري أذهانهم مما كانوا يسمعون. وفي تلك المناسبة تكلم كل من بطرس وفيليبس ويهوذا وتوما أيضاً.

فسأله بطرس: «يا سيد إلى أين تذهب؟» فأجابه يسوع، ثم ختم كلامه بقوله: أن في بيت أبيه منازل كثيرة، وأنه ماض لكي يعد لهم مكاناً.... «وَتَعْلَمُونَ حَيْثُ أَنَا أَذْهَبُ وَتَعْلَمُونَ الطَّرِيقَ» (يوحنا 14: 4). وهنا يعترض توما بقوله: «يَا سَيِّدُ، لَسْنَا نَعْلَمُ أَيْنَ تَذْهَبُ، فَكَيْفَ نَقْدِرُ أَنْ نَعْرِفَ الطَّرِيقَ؟» (يوحنا 14: 5).

وإذ يجتمع الرسل بعد القيامة لا يكون توما معهم. وهنا يعرِّض التلميذ نفسه للنقد، ربما بحق. ولكن ترى ما علة غيابه؟ إن الرجل، على ما يبدو، عصبي المزاج يعيش بعواطفه. وقد تأثر من هول ما رأى، ولم تطاوعه نفسه أن يتحدث إلى سمعان أو يوحنا أو غيرهما من التلاميذ، بل أراد أن يهرب من هذا الوسط الذي حطم أعصابه، وأن ينطوي على نفسه إلى أن يفيق من أثر الصدمة التي أصابت إيمانه ورجاءه. وما أحسب أن غيابه كان نقصاً في ولائه وإخلاصه، بل كان مبعثه الحزن الذي أغرقه، وفي ساعة الحزن الشديد يميل الإنسان إلى الاختلاء مع نفسه ليجتِّر أحزانه.

ثم تنقضي ثمانية أيام، وإذا بتوما مع زملائه، فابتدروه قائلين: «قد رأينا الرب». وهنا يطفو على السطح ألمه الدفين وتوجعه المكتوم..... «لا أصدق. إِنْ لَمْ أُبْصِرْ فِي يَدَيْهِ أَثَرَ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ إِصْبِعِي فِي أَثَرِ الْمَسَامِيرِ، وَأَضَعْ يَدِي فِي جَنْبِهِ، لاَ أُومِنْ» (يوحنا 20: 25). أهو إنكارً أو عدم إيمان، انا أحسبه سكيباً من قلب متوجع، جرع كأس الألم والهول حتى الثمالة، وهو يرى جسد سيده يمزق تمزيقاً، وينزف الدم غزيراً من جروح غائرة في يديه ورجليه وجنبه. والدليل الوحيد الذي يقنعه بأن سيده حيُّ، هو تلك الجروح حين تلمسها يده.

أي إنسان كان توما؟ لا ريب أنه كان إنساناً عملياً، وإنساناً صريحاً، لا لفَّ فيه ولا دوران. يغالبه اليأس حين يعتزم يسوع الانطلاق إلى اليهودية، وكان قد فهم حقيقة الموقف، وعرف أن اليهود سيقبضون على سيده لو ظفروا به، فاعتزم أن يذهب ليموت معه.

كان شجاعاً جريئاً، وقد تبدت شجاعته في قولته الختامية بعد إن اقتنع وأشرق عليه نور اليقين «ربي وإلهي!».

والآن ننتقل إلى الطريقة التي عالج بها طبيب الأرواح هذه الشخصية الفريدة بين تلاميذه.

لما اجتمع توما مع رفقائه في اليوم الأول من الأسبوع، ظهر لهم المسيح مرة ثانية. ونكاد نجزم بأن ظهوره في تلك المرة كان لإقناع توما. وفي هذه المرة نسمعه أيضاً يحييهم بكلمته المألوفة: «سلاماً لكم»؛ ثم يوجه كلامه إلى توما، ويقدم له جسده ليراه ويجسه، ويتأكد من شخصيته. وما أحسب أن توما جرؤ في ذلك المقام على مدِّ يده ولمس الجروح، خشية منه ورهبة، ولكن العرض قدم إليه وقيل له: لا تكن غير مؤمن، بل مؤمناً.

لقد وثق يسوع بتوما، وآمن به، واختاره رسولاً، وبقي على الإيمان به إلى نهاية الطريق. ثم أنه عالجه بالصبر، وأخذه باللين والحلم، وهيأ له الفرصة تلو الفرصة للتقدم والارتقاء، حتى تم له النصر أخيراً يوم صرخ «ربي وإلهي!».

نسجت التقاليد حول هذا التلميذ قصصاً ووقائع كثيرة. فقيل أنه انطلق بعد حلول الروح القدس على التلاميذ إلى بلاد ما بين النهرين وفارس. وهناك نادى برسالة الإنجيل، وصنع الله على يديه آيات كثيرة، وآمن على يديه كثيرون، وبنى لهم كنائس. ولعل بقايا المسيحيين من الكلدان والأشوريين هم من سلالة المسيحيين الذين آمنوا على يدي الرسول توما. ويقول المؤرخ يوسابيوس أن توما هو الذي عمد المجوس الثلاثة الذين أتوا من المشرق وسجدوا إلى السيد المسيح بعد ميلاده في بيت لحم، ثم قصد بعد ذلك إلى بلاد الهند حيث أسس هناك كنيسة، ما تزال باقية حتى اليوم، وتعرف بكنيسة مار توما في جنوب الهند، ويتبعها نحو مليون نسمة. وقيل أن ملك تلك البلاد حنق عليه أخيراً وأمر بضربه بالحراب ومات شهيداً.