العودة الى الصفحة السابقة
التدين الزائف

التدين الزائف

جون نور


«يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا» (متّى 15: 8)

عَاد تَلاميذ يسوع من الخارج بعد رحلة طويلة شاقة أنهكهم تعب السير وهدّ من قواهم الحَرّ الشَديد. ولم يَكونوا قد تَناولوا طَعاماً طول النَهار. لذلك جلسوا إلى الطَعام الذي أحضره أحدهم من السوق وبدأوا يأكلون بِكَثير من العَجلة!

وأبصرهم وهم يأكلون بعض الكتبة والفريسيين الذين جاءوا من أورشليم ليحضروا بعض جلسات المعلم يسمعون تعاليمه ويناقشونه فيها بالنسبة إلى أمور الناموس وظهر الذعر على وجوه الكتبة والفريسيين. كيف يأكل تلاميذ يسوع بأيد غير مغسولة وكيف يأكلون طعاماً غير مغسول!؟

ولعلّ من اللائِق أن نعرف أن اليهود كانوا يتبعون قوانين صارمة في كل نواحي حياتهم الدينية التي كانت تشمل في نفس الوقت العلاقات الاجتماعية والشرعية والصحية. وقد يظن بعضنا أن قوانينهم الدينية كانت في الكتاب المقدس وأنهم كانوا يرعون الكتاب ويُدقّقون في حفظه، وهو ظن بعيد عن الصواب.

كان من بين الوصايا، أوامِر تتعلّق بِكيفيّة العِبادة والصلاة والصيام والصدقة ومُعاملة الجار ومُعاملة الغَريب. وكان عددها ألوف وألوف. وكان الكاتب الماهر هو من يلمّ بِهذه الأوامِر ويعرف أسرارها وتفصيلاتها.

من أجل هذا ارتاع الفريسيّون والكَتبة وهم يبصرون تلاميذ يسوع يأكلون بأيدٍ غير مغسولة. وتقدّموا إليه قائِلين لماذا يَتعدّى تَلاميذك تَقليد الشيوخ فإنهم لا يغسلون أيديهم حينما يأكلون خبزاً.

أما يسوع فنظر إلى أولئك المُشتكين نظرة حزينة ولكنها كانت في نفس الوقت نظرة صارِمة.

إنه لا يُعارِض أن يغسل تَلاميذه أيديهم. إنه يهتم أن تَكون أيديهم نَظيفة. ولكنه يهتم بنظافة أُخرى أعظم وألزم. كان الفريسيّون يهتمون بِنظافة الأيدي ويُهمِلون نظافة القَلب. إن اليَد المَغسولة أو غير المَغسولة لا عِلاقة لها بِالصلاة أو بِالتعبّد. إن الله روح وعِبادتُهُ تَتصلّ بِروح الإنسان.

أولئك الذين كرّسوا حَياتهم لإبراز أغلاط الغير وإشهارها والإعلان عن بر أنفسهم!

هل هُم مُتدينون حقاً. وهل يمكن أن تكون النفوس المُمتلئة بإظهار عيوب الناس نفوساً مُتدينة. وهل يمكن أن تكون القلوب الخالِية مِن المَحبة والعطف قلوباً تَعرف الله؟

قال يَسوع لأولئك المُشتَكين أنتم تأخذون على تَلاميذي أنهم يَتعدّون تَقليد الشيوخ لأنهم لا يَغسِلون أيديهم حينما يَأكلون خُبزاً. وأنتم أيضاً لماذا تتَعدّون وصية الله بسبب تَقليدكم؟

ونظر الكَتبة والفريسيين إليه مُتسائِلين كيف نَتعدّى وَصيّة الله ونحن نَحفظها ونُدقّق كُل التدقيق في حِفظها.

قال يسوع بألم. حسناً تنبّأ إشعياء عنكم أنتم المراؤون كما هو مكتوب «يَقْتَرِبُ إِلَيَّ هذَا الشَّعْبُ بِفَمِهِ، وَيُكْرِمُني بِشَفَتَيْهِ، وَأَمَّا قَلْبُهُ فَمُبْتَعِدٌ عَنِّي بَعِيدًا وَبَاطِلاً يَعْبُدُونَني وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ» (متّى 15: 8 و9) لأنكم تركتم وصيّة الله وتَتمسّكون بِتَقليد الناس. غسل الأباريق والكؤوس وأمور أُخَرى كَثيرة مثل هذه تَفعلون! وصمت الكتبة والفريسيّون صمتوا عجزاً وخَجلاً!

ودعا يسوع كل الجمع وقال لهم اسمعوا مني كلكم وافهموا. ليس شيء من خارج الإنسان إذا دخل فيه يقدر أن يُنجسّه. لكن الأشياء التي تخرج منه هي التي تنجس الإنسان. إن كان لأحد أذنان للسمع فليسمع.

أما الفريسيون فمضوا غاضبين. إنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليه. إنه يتكلّم كلامه مسنوداً بالكتاب. ولكنهم برغم عجزهم لا يقبلون كلامه وينطلقون متذمرين كيف يتجاسر ذلك الجليلي أن يطعن في تقاليد الآباء التقاليد التي وقف أساطين الأمة على حمايتها وتفسيرها.

كان المثل واضحاً كل الوضوح. ولكن التلاميذ لم يفهموه. وقال السيد عاتباً هل أنتم أيضاً حتى الآن غير فاهمين. ألا تفهمون بعد أن كل ما يدخل الفم لا يمضي إلى القَلب بل يَمضي إلى الجوف ويَندفع إلى المَخرج؟؟

«وَأَمَّا مَا يَخْرُجُ مِنَ الْفَمِ فَمِنَ الْقَلْب يَصْدُرُ، وَذَاكَ يُنَجِّسُ الإِنْسَانَ، لأَنْ مِنَ الْقَلْب تَخْرُجُ أَفْكَارٌ شِرِّيرَةٌ: قَتْلٌ، زِنىً، فِسْقٌ، سِرْقَةٌ، شَهَادَةُ زُورٍ، تَجْدِيفٌ» (متّى 15: 18 و19). جميع هذه الشرور تخرج من الداخِل وتُنجس الإنسان وأمّا الأكل بأيدٍ غير مَغسولة فلا يُنجسّ الإنسان!