العودة الى الصفحة السابقة
مثل وكيل الظلم

مثل وكيل الظلم

جون نور


«1 وَقَالَ أَيْضًا لِتَلاَمِيذِهِ: «كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ لَهُ وَكِيلٌ، فَوُشِيَ بِهِ إِلَيْهِ بِأَنَّهُ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ. 2 فَدَعَاهُ وَقَالَ لَهُ: مَا هذَا الَّذِي أَسْمَعُ عَنْكَ؟ أَعْطِ حِسَابَ وَكَالَتِكَ لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَكُونَ وَكِيلاً بَعْدُ. 3 فَقَالَ الْوَكِيلُ فِي نَفْسِهِ: مَاذَا أَفْعَلُ؟ لأَنَّ سَيِّدِي يَأْخُذُ مِنِّي الْوَكَالَةَ. لَسْتُ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَنْقُبَ، وَأَسْتَحِي أَنْ أَسْتَعْطِيَ. 4 قَدْ عَلِمْتُ مَاذَا أَفْعَلُ، حَتَّى إِذَا عُزِلْتُ عَنِ الْوَكَالَةِ يَقْبَلُونِي فِي بُيُوتِهِمْ. 5 فَدَعَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ مَدْيُونِي سَيِّدِهِ، وَقَالَ لِلأَوَّلِ: كَمْ عَلَيْكَ لِسَيِّدِي؟ 6 فَقَالَ: مِئَةُ بَثِّ زَيْتٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاجْلِسْ عَاجِلاً وَاكْتُبْ خَمْسِينَ. 7 ثُمَّ قَالَ لآخَرَ: وَأَنْتَ كَمْ عَلَيْكَ؟ فَقَالَ: مِئَةُ كُرِّ قَمْحٍ. فَقَالَ لَهُ: خُذْ صَكَّكَ وَاكْتُبْ ثَمَانِينَ. 8 فَمَدَحَ السَّيِّدُ وَكِيلَ الظُّلْمِ إِذْ بِحِكْمَةٍ فَعَلَ، لأَنَّ أَبْنَاءَ هذَا الدَّهْرِ أَحْكَمُ مِنْ أَبْنَاءِ النُّورِ فِي جِيلِهِمْ» (لوقا 1:16 - 8).

يحيرنا مثل الوكيل للوهلة الأولى، لأنه يبدو لنا غامضاً ويصعب علينا فهمه. فقد أرانا يسوع فيه وكيلاً خائناً أساء الأمانة وتصرف بمال ليس له كما لو كان ماله، ليؤمن مستقبله، إذا طرد من عمله.

لنذكر أن القصة مثل. والأمثال لا تصور الحقائق مئة بالمئة. فعلينا ألا نتقيد بحرفيتها، بل أن نستخرج منها الدروس والعبر اللازمة لنا. وبهذا المعنى علينا أن نفهم مثل الكنز المخفي في الحقل، ومثل تاجر اللآليء وغيرهما من أمثال يسوع. لقد إكتشف السيد الغني صاحب المال في المثل الأعيب وكيله الذي أثبت أنه لم يكن أهلاً للوظيفة التي كان يشغلها والأمانة التي تسلمها. وكان خوفه، أن سيده سيعزله من منصبه في محله. كان في وسع رئيسه أن يسلمه إلى الشرطة لتتولى أمره. ولكن فصله عن عمله وستغنى عن خدماته بأقصى سرعة ودون إمهال، كان عقاباً كافياً له. وليس هنالك أقسى من عقاب كهذا. ولو أفترضنا أن رئيسه خفف العقاب وتغاضى قليلاً عن غشه ونزع منه وظيفة وكيل أو مدير، وقبل أن يبقى عنده عاملاً عادياً كبقية العمال، لرفض الوكيل عرض رئيسه، لأنه لم يولد للأعمال اليدوية الشاقة وكيف يرضى ذو القميص الأبيض أن يقوم بالأعمال التي تتسخ منها ملابسه؟! ناهيك عن أقاويل الناس وشماتتهم به، بعد أن كان يوظف ويعزل كما يحلو له.

تلمع في ذهن الرجل فكرة: ما زالت لديه صلاحيات وإمكانات، فلم لا يستخدمها، وما زالت أمامه فرصة سانحة، فلم لا ينتهزها قبل أن يعزل؟ لقد فكر بالإمكانات والفرص التي ما برح قادراً على إستغلالها والإفادة منها، فبادر إلى إستدعاء المدينين لسيده جميعاً: الذين كانت عليهم ديون وقروض، ومشتريات وغيرها. ويخفض لهم الربا الفاحش الذي فرض عليهم فرضاً، وهم ضعفاء لا حول لهم ولا قوة. فيعجب هؤلاء بشهامته وعلو همته، ويشيدون بفضله وإنسانيته وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال وتقدير. إنهم من رجال المجمع، من الكهنة وعلماء الشريعة. وبالنسبة إلينا اليوم أنهم رجال الكنيسة. وكان الربا محرماً في الشريعة اليهودية، فلذلك أعجب رئيسه بفطنته وذكائه وأثنى على حكمته ودهائه بإنقاذ نفسه: «فامتدح السيد الوكيل الخائن، لأنه تصرف بحكمة».

إني أعيد السؤال: لقد قدم الوكيل بتصرفه على ذلك النحو نموذجاً، فهل يحق لنا أن نرضى بنموذجه ونتخذه مبدأ لنا، فنسلك مسالك ملتوية ونستخدم الإحتيال والخيانة في عالم مليء بالإحتيال والخيانة؟

إننا في الواقع، نسلك أحياناً، إن لم يكن غالباً، هذا المسلك. إننا نسمع في الكنيسة كيف يجب أن نكون. ولكن بعدما نغادر الكنيسة ننسى ما سمعناه. إننا لا نقول الحق ولا نتكلم الصدق أمام أولادنا. إننا نكذب عليهم وعلى أنفسنا. ولا نريد أن نعترف بذلك. إننا والحالة هذه أظلم من «وكيل الظلم». فلقد كان الرجل واقعياً، وأدرك أن تصرفه كان خاطئاً، فاعترف بذلك أمام نفسه وأمام الله. لم يلق باللوم على غيره. كما نفعل نحن مراراً، بل على نفسه. وكان على إستعداد لتحمل المسؤولية كاملة، دون اللجوء إلى إنتحال الأعذار الواهية.

أعتقد بأننا فهمنا الآن المراد من المثل. ولكن ماذا يعني المثل لنا في الوقت الحاضر، في الوقت الذي نعيش فيه؟ ولماذا يتكلم يسوع بهذا الأسلوب المشبوه؟ إنه يفعل ذلك، لأنه يدرك أن هذه اللغة هي اللغة التي يفهمها أهل العالم. فهو يحذرنا بهذا الأسلوب البشري الذي نفهمه. فالمثل عجيب ويميل إلى الغرابة، ولكن غرابته تعجبنا وتستأسر مشاعرنا.

ويدعو إلى الغرابة أيضاً، لأنه ينطوي على إشارة واضحة إلى ملكوت الله. وملكوت الله، كما يدل إسمه. يختلف عن الممالك العالمية. وقوانينه غير قوانين الممالك الأرضية.

المثل، إذا صح هذا التشبيه، كالمرآة. للمرآة وجهان، وجه زجاجي صاف تظهر عليه صور الأشياء، ووجه آخر مغطى بالطلاء. فغاية المثل هي التذرع بالحكمة. لا اللجوء إلى الغش. ولنر الآن ما يعلمنا إياه المثل بشأن ملكوت الله، وما يجب علينا أن نعمله:

إنه يعلمنا أن نعترف بواقعنا أمام الله إعترافاً صحيحاً صريحاً بعيداً عن إخفاء الحقيقة وطلائها، فلا نحاول مخادعة أنفسنا ومخادعة الله وأن نعرف أن موقف الله منا هو موقف حبي صادق لا يتغير. فهو لا يشمت بنا ولا يترفع علينا، إذا إعترفنا له بذنبنا، بل يحوطنا بلطفه وجوده ويمسك بأيدينا وينهضنا. ولذلك يجب ألا نخجل من مصارحته بما تنطوي عليه نفوسنا من غش وخداع ورياء وأنانية. ونسترشد بكلمته. فكلما رغبنا في معرفة كلمته. كما جاءت في الكتاب المقدس. زادت معرفتنا لما يريده منا وما لا يريده، فلا نضل السبيل.

التفت الوكيل إلى ماضيه، فرأى خطأه. وتأمل في حاضره، فخاف على مصيره. وتطلع إلى المستقبل، فسعى لإنقاذ نفسه، وبالتالي لتأمين آخرته. كل إنسان يسير شطر النهاية. ولا يعلم أحد متى تكون ساعة الصفر. ولذلك علينا أن نتعلم من حكمة الوكيل فنفكر في مصيرنا في المستقبل وأن نفتدي الوقت، ونعيش لله، لأننا لا نعلم ما تخبئه لنا الأيام في طياتها.