العودة الى الصفحة السابقة
يسوع والقيصر

يسوع والقيصر

جون نور


«15 حِينَئِذٍ ذَهَبَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَتَشَاوَرُوا لِكَيْ يَصْطَادُوهُ بِكَلِمَةٍ. 16 فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ تَلاَمِيذَهُمْ مَعَ الْهِيرُودُسِيِّينَ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، نَعْلَمُ أَنَّكَ صَادِقٌ وَتُعَلِّمُ طَرِيقَ اللهِ بِالْحَقِّ، وَلاَ تُبَالِي بِأَحَدٍ، لأَنَّكَ لاَ تَنْظُرُ إِلَى وُجُوهِ النَّاسِ. 17 فَقُلْ لَنَا: مَاذَا تَظُنُّ؟ أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ؟» 18 فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ: «لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَا مُرَاؤُونَ؟ 19 أَرُونِي مُعَامَلَةَ الْجِزْيَةِ». فَقَدَّمُوا لَهُ دِينَارًا. 20 فَقَالَ لَهُمْ:«لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» 21 قَالُوا لَهُ: «لِقَيْصَرَ». فَقَالَ لَهُمْ: «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ. 22 فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا» (متّى 15:22 – 22).

كان اليهود في عصر المسيح منقسمين إلى شيعتين من حيث إعترافهم بحق الرومان عليهم في جباية الضرائب منهم: الشيعة الأولى تتمثل في الفريسيين وهم الوطنيون المتطرفون. وكان هؤلاء ينادون بالشعب بعدم الإمتثال لأوامر الرومان ويحرضونهم على عدم دفع الضرائب. والشيعة الثانية تتمثل في الهيرودسيين. وكان هؤلاء ميالون للرومان الحاكمين ويعترفون بحقهم في جباية الضرائب من اليهود المحكومين، على إعتبار أنهم حماة حقوقهم الساهرون على رعايتهم. غير أن هاتين الشيعتين على الرغم من العداء المستحكم بينهما، قد وجدتا سبيلاً إلى التفاهم معاً على أساس عدائهما المشترك للمسيح الذي وجدوا فيه عدواً مشتركاً يهدد كيانهما الديني والإجتماعي. إتفق هذان الخصمان المتحالفان على تجربة يسوع للإيقاع به. سألوه: «أيجوز أن تعطى الجزية لقيصر؟} وكان هذا السؤال على جانب كبير من الأهمية بالنسبة إليهم، لأن اليهود كانوا يمقتون الضرائب التي فرضها عليهم العاهل الروماني، لأنها كانت دليلاً على خضوعهم لقوة أجنبية دخيلة. وأمام هذا الحق ظهر زيف سائليه ورياؤهم وإعوجاج قلوبهم.

فإذا أجابهم بدفع الجزية لقيصر أرضى الهيرودسيين وأغضب الفريسيين وحسبوه من دعاة الإستعمار ونصيراً للتردد والهزيمة. وإذا قال بعدم دفع الجزية، أرضى الفريسيين الوطنيين وأغضب الهيرودسيين، وأوقع نفسه في أيدي الحكام الرومان، وأثبت على نفسه تهمة الإعتداء على حقوق قيصر، وإثارة الفتنة والشغب في صفوف الشعب.

قال لهم: «أحضروا إلي ديناراً» وكان الدينار العملة المتداولة آنذاك. ولما قدموا إليه الدينار وسألهم عن الصورة التي تحملها أعترفوا هم أنفسهم بأن الدينار يحمل صورة قيصر وكتابته، وبالتالي أن قيصر هو سيد البلاد. وكانت العملة السائدة يومئذ على نوعين: عملة يهودية لم تطبع عليها صورة أحد وعملة رومانية ومنها الدينار الذي طبعت عليه صورة القيصر طيباريوس. ومع أن الرومان لم يشددوا على طبع صورة قيصرهم على العملة التي كانت متداولة في إسرائيل يومئذ، تساهلاً منهم، غير أن هيرودس اليهودي أراد أن يتملق قيصر، فطبع صورة قيصر على العملة التي كانت تستعمل في إسرائيل، في ذلك الحين. فقول يسوع لهم: «أعطوا ما لقيصر لقيصر» يعني أنهم قبلوا أن يتعاملوا بالعملة الرومانية وتطوعوا فطبعوا عليها صورة القيصر الروماني بمحض إرادتهم. فعليهم أن يعترفوا بما إختاروه برضاهم وقبلوه.

«فَلَمَّا سَمِعُوا تَعَجَّبُوا وَتَرَكُوهُ وَمَضَوْا». ويتضح من هذا الكلام أنهم أصيبوا بفشل ذريع. حاولوا أن يأخذوه بمكيدة سياسية. وكانت المكائد السياسية سائدة في ذلك الحين كما هو الحال في أيامنا أيضاً. ولكن يسوع تجاوز الخطر بمهارة وسرعة، لأنه رد السهم الحاد الذي وجهوه إليه إلى قلوبهم دون أن يقتلهم، لأن يسوع جاء ليخلص لا ليهلك.

ولم يقصد يسوع بقوله: «أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ!» إن على المسيحي أن يعترف بالحكومة، سواء أكانت صالحة أو شريرة، عادلة أو ظالمة دون قيد أو شرط، بل عليه أن يستعمل فطنته وحكمته ويعترف بالواقع ويمضي قدماً بأعماله مميزاً الأمور يحدوه الرجاء بتغيير الأوضاع يوماً ما، إذا لم تكن الأوضاع الراهنة لصالحه.

كثيراً ما كان يسوع يستخدم أسلوب الأسئلة والأمثال والإستعارات في أحاديثه ليوضح لسامعيه ما يريد أو ليشير إلى أشياء معينة من طرف خفي. ولكنه إستعمل هنا أسلوب الإيجاز وعاد إلى قلب الموضوع إذ قال: «وأعطوا ما لله لله!» وبما أنه إلهي فإنه يختلف عنا في نظره إلى الوطن والحكومة والقيصر والواجبات المدنية والبيت والأسرة والأهل. فهذه أمور جوهرية بالنسبة إلينا، ولكنها كانت أقل قيمة بالنسبة إليه.

ليس المطلوب منا ألا نعطي قيصر حقه. ولكن المطلوب منا ألا نعطي قيصر ما لله. وهذا ما حدث في التاريخ مراراً وتكراراً. فبعض الملوك طلبوا من الناس أن يؤلهوهم. فأقيمت لهم النصب والتماثيل بعد مماتهم ليستمر الناس في تأليههم وعبادتهم.

عندما طلب يسوع من المتآمرين عليه أن يقدموا له ديناراً: ثم سألهم: «لِمَنْ هذِهِ الصُّورَةُ وَالْكِتَابَةُ؟» ولعله أشار عند نطقه بكلمة «الصورة» لإشارتين: أولهما إلى الدينار، والثانية إلى وجوههم. فذكرهم أن الدينار يحمل صورة قيصر، فيجب أن يعطى قيصر حقه المشروع. وبأنهم هم يحملون على وجوههم صورة الله الذي خلقهم، فيجب أن يقدموا أنفسهم لله، وأن هذا حق الله المشروع: «إن الله خلق الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه» فإذا كان الله قد خلقنا على صورته، فمن حقه، وهو صاحب الصورة أن يدعي ملكيتنا، وأن يطالب برد هذه الملكية إليه.

«اعطوا ما لله لله!» أعطوه قلوبكم. «أحبب الرب إلهك من كل قلبك».

وأما يسوع فطلب أكثر من ذلك. طلب أن نقيم علاقة أو شركة وطيدة مع الله كهدف أسمى وغاية أخيرة في حياتنا ولحياتنا، لتكون قلوبنا «مسكناً له يقيم فيها» ويوجهها. فاعطوا لله ما لله، أعطوه قلوبكم!.

فإذا كانت صورة قيصر مطبوعة على عملات زائلة، فيجب أن تكون صورة الله مطبوعة على القلب بصورة بارزة يستطيع كل إنسان أن يقرأها. فإذا قال قيصر: «أعطني ديناري» فإن الله يقول: «يا إبني أعطني قلبك!».

فلنعط الله ثقتنا ومحبتنا وأفكارنا ووقتنا وعملنا ومستقبلنا وصلاتنا. ولنصل أيضاً لأجل القيصر والمستبدين، فإن الله قادر في نهاية الأمر أن يحول المرارة إلى حلاوة والإضطراب إلى هدوء.