العودة الى الصفحة السابقة
جبل التجلي

جبل التجلي

جون نور


«1 وَبَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ أَخَذَ يَسُوعُ بُطْرُسَ وَيَعْقُوبَ وَيُوحَنَّا أَخَاهُ وَصَعِدَ بِهِمْ إِلَى جَبَل عَال مُنْفَرِدِينَ. 2 وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ. 3 وَإِذَا مُوسَى وَإِيلِيَّا قَدْ ظَهَرَا لَهُمْ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُ. 4 فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقُولُ لِيَسُوعَ: «يَارَبُّ، جَيِّدٌ أَنْ نَكُونَ ههُنَا! فَإِنْ شِئْتَ نَصْنَعْ هُنَا ثَلاَثَ مَظَالَّ: لَكَ وَاحِدَةٌ، وَلِمُوسَى وَاحِدَةٌ، وَلإِيلِيَّا وَاحِدَةٌ». 5 وَفِيمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذَا سَحَابَةٌ نَيِّرَةٌ ظَلَّلَتْهُمْ، وَصَوْتٌ مِنَ السَّحَابَةِ قَائِلاً: «هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا». 6 وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا. 7 فَجَاءَ يَسُوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ: «قُومُوا، وَلاَ تَخَافُوا». 8 فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ. 9 وَفِيمَا هُمْ نَازِلُونَ مِنَ الْجَبَلِ أَوْصَاهُمْ يَسُوعُ قَائِلاً: «لاَ تُعْلِمُوا أَحَدًا بِمَا رَأَيْتُمْ حَتَّى يَقُومَ ابْنُ الإِنْسَانِ مِنَ الأَمْوَاتِ» (متّى 1:17 - 9).

وقعت قصة التجلي في ظرف دقيق حاسم من حياة يسوع حين بلغ ذروة خدمته على الأرض، فطلب الإنفراد والخلوة للتأمل والإستعداد لطريق الألم والفداء الذي سيسلكه. التجربة وقعت في مستهل خدمته. وكان تفكيره آنذاك منصباً على السؤال: كيف يقدم الدليل الصريح على أنه المسيح؟ وما هو الطريق الصحيح لإقامة ملكوت الله على الأرض؟ فانتهى بعد صراع عنيف مع قوى الشر غير المنظورة إلى إختيار طريق الموت على الصليب، إستجابة لإرادة الآب.

يسأل كثيرون: أين حدث التجلي. وكان هذا الموضوع مثاراً للجدل فيما مضى. ويعتقد الشارحون للكتاب المقدس اليوم أنه إحدى القمم الجنوبية من جبل حرمون. ويستندون بذلك على حجج ثلاث: أولها أن يسوع كان آنذاك في ضواحي بانياس أو قيصرية فيلبس، عند منابع نهر الأردن. والثانية أن القصة تحدثنا عن جبل عال. وليس جبل طابور القريب من الناصرة من الجبال العالية. والثالثة أنهم كانوا منفردين على الجبل. ويحدثنا التاريخ أنه كانت على جبل طابور قلعة رومانية يشغلها جنود رومانيون. ولم يكن في وسع الإنسان يومئذ أن ينفرد في مكان يحيط به جنود رومانيون شديدو الوطأة على اليهود.

غير أن ما يهمنا أكثر من الموقع الجغرافي المعنى الروحي. فقد اصبح طابور لدى المسيحيين رمزاً للإختلاء مع الله. فغدوا يطلقون إسم «طابور» على ساعات الإنفراد والصمت والتعبد بعيداً عن الضجيج والضوضاء.

وفي حديثنا الآن عن ساعات طابور نريد أن نتأمل فيما يعنيه التجلي أولاً ليسوع وثانياً للتلاميذ وثالثاً لنا.

ما الذي جرى ليسوع على الجبل يومئذ؟ يقول متى: «وَتَغَيَّرَتْ هَيْئَتُهُ قُدَّامَهُمْ، وَأَضَاءَ وَجْهُهُ كَالشَّمْسِ، وَصَارَتْ ثِيَابُهُ بَيْضَاءَ كَالنُّورِ». ويقول مرقس: وصارت ثيابه تلمع بيضاء جداً «كالثلج». ويقول لوقا: تغير منظر وجهه وصارت ثيابه بيضاء «لامعة». فالتجلي وما حدث مع موسى حينما أضاء وجهه بعد لقائه مع الله على جبل سيناء جمع في أوصافه بين النور في ضيائه والبرق في بهائه. وشتان ما بين المسيح وموسى. كان النور الظاهر على وجه المسيح على جبل التجلي ذاتياً منبعثاً من الداخل إلى الخارج كبهاء الشمس. وكان لمعان وجه موسى على جبل سيناء كضياء القمر مكتسباً من الخارج.

لم يكن جميع التلاميذ مع المسيح على جبل التجلي، بل ثلاثة منهم فقط وهؤلاء كانت لهم مكانة خاصة لدى يسوع: بطرس ويعقوب ويوحنا. وبطرس معناه صخر. أطلق يسوع عليه هذا اللقب. وظل كذلك إلى أن أنكر يسوع. وتغير تغيراً تاماً بعد حلول الروح القدس وأصبح بفضل يسوع صخراً بكل ما في الكلمة من معنى. وأما يعقوب فكان هادئاً رزيناً. وأصبح أول أسقف في أورشليم، وأول من إستشهد من الرسل على يد هيرودس أغريبياس الذي أمر بقطع رأسه.

أما يوحنا فلقب «بالتلميذ الحبيب» وكان أقرب المقربين إلى يسوع.

كانت الرؤيا التي شوهدت مشاهدها على جبل التجلي جليلة في أبعادها ومراميها، إذ كانت غايتها إيقاظ التلاميذ وإلهاب هممهم وإعدادهم للعمل العظيم والمسؤوليات الجسام التي سيلقيها المعلم على التلاميذ، والآلام التي سيصطلون بنيراها الحامية في مستقبل حياتهم، ورؤية بريق الرجاء المشعشع من خلال الغمام والظلام، وإنتصار يسوع على الموت وقيامته المجيدة.

وهذا يأتي بنا إلى ما يعنيه التجلي بالنسبة إلينا في أيامنا هذه. إننا لا نرى الرب بالجسد، كما رآه التلاميذ. ولكننا نستطيع أن نراه بعين الإيمان. فلذلك يجب أن نختبر ما اختبره التلاميذ على جبل طابور. يجب أن تمر بنا ساعات كتلك التي مرت بهم هنالك. بل نراه معنا في عواصف حياتنا واضطراباتها. نراه يسير إلى جانبنا في دروب حياتنا فنرى السماء المفتوحة أمامنا فترتاح أفكارنا المتعبة وتطمئن قلوبنا المضطربة.

إن قلة ضئيلة من الناس يختبرون ساعات طابور التي يسمو فيها الإنسان على أجنحة الإيمان العابد. الإيمان الواثق الذي لا يتغير وإن تغيرت ظروف الإنسان. الإيمان الذي يظل ثابت الأركان في آمال الحياة وآلامها، في النجاح والفشل، في الإخفاق وخيبة الأمل، حين تبتسم شمس السعادة، وحين تنهمر دموع الحزن.

ولن يفوز الإنسان بساعات التجلي في ضوضاء الحياة ومشاغلها الكثيرة، ولا في الحفلات واللقاءات الصاخبة، وإنما في الإعتزال عن الضجيج والصخب والإختلاء بالنفس والصمت والتأمل. فالإنسان يرتقي قمة جبل ليستمتع بنسمات السماء ويرى ما لم يره في أسفل الواد.

ولذلك لم يطل يسوع الإقامة على الجبل، بل هبط مع تلاميذه إلى ميدان العمل.

ميدان الإيمان العامل بالمحبة هو ما يطلبه منا يسوع. ونحن نسيء إلى الرسالة التي حملنا إياها إذا كانت أعمالنا مغايرة لإيماننا العامل بالمحبة.

إن الرب يدعو شعبه من خلال قصة التجلي إلى العبادة التي لحمتها الإيمان الواثق وسداها المحبة الخادمة. فعلى قدر ما نؤمن به نحبه. وعلى قدر ما نحبه نسمو إليه. وعلى قدر ما نسمو إليه نسر بخدمته التي تتجلى بخدمتنا للناس.