العودة الى الصفحة السابقة
قصة قديمة حديثة وهي قصة اليعازر والغني

قصة قديمة حديثة وهي قصة اليعازر والغني

جون نور


«19 كَانَ إِنْسَانٌ غَنِيٌّ وَكَانَ يَلْبَسُ الأَرْجُوانَ وَالْبَزَّ وَهُوَ يَتَنَعَّمُ كُلَّ يَوْمٍ مُتَرَفِّهًا. 20 وَكَانَ مِسْكِينٌ اسْمُهُ لِعَازَرُ، الَّذِي طُرِحَ عِنْدَ بَابِهِ مَضْرُوبًا بِالْقُرُوحِ، 21 وَيَشْتَهِي أَنْ يَشْبَعَ مِنَ الْفُتَاتِ السَّاقِطِ مِنْ مَائِدَةِ الْغَنِيِّ، بَلْ كَانَتِ الْكِلاَبُ تَأْتِي وَتَلْحَسُ قُرُوحَهُ. 22 فَمَاتَ الْمِسْكِينُ وَحَمَلَتْهُ الْمَلاَئِكَةُ إِلَى حِضْنِ إِبْرَاهِيمَ. وَمَاتَ الْغَنِيُّ أَيْضًا وَدُفِنَ، 23 فَرَفَعَ عَيْنَيْهِ فِي الجَحِيمِ وَهُوَ فِي الْعَذَابِ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ مِنْ بَعِيدٍ وَلِعَازَرَ فِي حِضْنِهِ، 24 فَنَادَى وَقَالَ: يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، ارْحَمْنِي، وَأَرْسِلْ لِعَازَرَ لِيَبُلَّ طَرَفَ إِصْبَِعِهِ بِمَاءٍ وَيُبَرِّدَ لِسَانِي، لأَنِّي مُعَذَّبٌ فِي هذَا اللَّهِيبِ. 25 فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: يَا ابْنِي، اذْكُرْ أَنَّكَ اسْتَوْفَيْتَ خَيْرَاتِكَ فِي حَيَاتِكَ، وَكَذلِكَ لِعَازَرُ الْبَلاَيَا. وَالآنَ هُوَ يَتَعَزَّى وَأَنْتَ تَتَعَذَّبُ. 26 وَفَوْقَ هذَا كُلِّهِ، بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ هُوَّةٌ عَظِيمَةٌ قَدْ أُثْبِتَتْ، حَتَّى إِنَّ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْعُبُورَ مِنْ ههُنَا إِلَيْكُمْ لاَ يَقْدِرُونَ، وَلاَ الَّذِينَ مِنْ هُنَاكَ يَجْتَازُونَ إِلَيْنَا. 27 فَقَالَ: أَسْأَلُكَ إِذًا، يَا أَبَتِ، أَنْ تُرْسِلَهُ إِلَى بَيْتِ أَبِي، 28 لأَنَّ لِي خَمْسَةَ إِخْوَةٍ، حَتَّى يَشْهَدَ لَهُمْ لِكَيْلاَ يَأْتُوا هُمْ أَيْضًا إِلَى مَوْضِعِ الْعَذَابِ هذَا. 29 قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: عِنْدَهُمْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءُ، لِيَسْمَعُوا مِنْهُمْ. 30 فَقَالَ: لاَ، يَا أَبِي إِبْرَاهِيمَ، بَلْ إِذَا مَضَى إِلَيْهِمْ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يَتُوبُونَ. 31 فَقَالَ لَهُ: إِنْ كَانُوا لاَ يَسْمَعُونَ مِنْ مُوسَى وَالأَنْبِيَاءِ، وَلاَ إِنْ قَامَ وَاحِدٌ مِنَ الأَمْوَاتِ يُصَدِّقُونَ» (لوقا 19:16 - 31).

في هذه القصة قصة الغني واليعازر نجد أنها أغرب وأعجب قصة أخبرت على لسان المسيح. إنها مثل. ولن أتكلم في هذه الحلقة كثيرا عن السماء وجهنم والحياة الأبدية. فالبشر في جميع الأديان وجميع الأزمان كانوا وما زالوا يؤمنون بنوع من البعث أو الحياة الأبدية. أي الحياة بعد الموت.

كان قادة شعب إسرائيل في زمن يسوع رجالاً متدينين محترمين يقومون بالواجبات المنوطة بهم بنشاط وجدية. إلا أن تدينهم كان في نظر يسوع قائماً على المظاهر الخارجية. فقد طغت الشعائر والمراسم الدينية على الدين الحقيقي، فعراه الجمود والتحجر.

وحصر هؤلاء القادة إهتمامهم بمصالحهم، فأهملوا الشعب وأساؤا إليه. وأصبح دينهم مع مرور الزمن دين كلام، فأهملوا الوصية الإلهية التي كانت تدعوهم إلى محبة الله ومحبة القريب. فدعاهم يسوع إلى الرجوع إلى هذه الوصية وتطبيقها عملياً، لأن الله لا يريد الدين النظري الذي يقوم على الكلام. بل الدين الذي يتبلور ويتجسد، فتظهر آثاره في حياة الإنسان. في قصة الغني واليعازر التي قدمها يسوع كمثل لهؤلاء القوم من الفريسيين يخبر بأن الاثنين ماتا أي الغني وإليعازر فذهب الغني إلى الجحيم وأما إليعازر فذهب إلى حضن إبراهيم إلى النعيم.

قال لهم يسوع، إن الذي هبط إلى الجحيم كان فريسياً محترماً مثلهم. وآل أمره إلى العذاب، لأنه أهمل الناس الذين حوله، وركز كل إهتمامه على نفسه.

حاول الفريسي في جحيمه أن يسدي خدمة إلى إخوته. بأن يرسل إليهم من ينبههم إلى أخطائهم ولينقذهم من خطأ عظيم ذهب هو ضحيته، كي لا يقعوا هم فيه ويذهبوا ضحيته. غير أن محاولاته تلك جاءت متأخرة وبعد فوات الأوان.

فحرص يسوع نفسه على أن يسدي إليهم هذه الخدمة ليفتح عيونهم إلى حقيقة حالهم، موضحاً لهم أن الدين، كل الدين، يقوم على الوصية: «أحبب الرب إلهك، وأحبب قريبك كنفسك!» فما الذي تقوله لنا هذه القصة القديمة؟ ماذا تقول لأبناء القرن الحادي العشرين؟ ماذا تقوله للعالم المعاصر الذي نعيش فيه؟

هناك أغنياء موسرون يعيشون في ظروف حسنة. إنهم لا يعرفون معاني البؤس والتعاسة والفقر والجوع والحرمان. وهناك أيضاً وبخاصة في ما يسمونه «بالعالم الثالث» في آسيا وأفريقيا، ملايين من البشر يتضورون جوعاً ويعيشون على الأرض كما لو كانت جحيماً. فدفعت محبة المسيح في الأقطار المسيحية هؤلاء الموسرين إلى إسعاف هؤلاء البؤساء. مسوقين إليه بدافع المحبة. وللمحبة قدرة فائقة على إيجاد طرق وإستنباط وسائل لتخفيف الضيق. والضيق العظيم لا تخففه أو تزيله إلا المحبة العظيمة. والآلام الغامرة لا تزيلها إلا المحبة العامرة.

وبقدر ما نحب الله، تنبض قلوبنا بالمحبة للناس. وكل بلد تستيقظ فيه المحبة للمسيح تثبت فيه أركان ملكوت الله. وتعانق السماء الأرض.

لم يذهب الغني إلى مكان العذاب، لأنه كان غنياً أو، لأنه إستمتع بمسرات هذه الحياة أكثر من سواه. أو، لأنه كان ملحداً لا يؤمن بالله، أو لأنه كان شريراً فاسد السيرة، ونتصور أنه كان يؤمن بالله على طريقته ويأتي إلى العبادة في بيت الله في ظروف خاصة: في حفل أو في عيد أو في مناسبات أخرى هامة. ولم يوجه إليه اللوم بسبب غناه، فإن كثيرين من الأغنياء أسهموا في تقدم ملكوت الله، بل لأنه عاش لذاته ولذاته ونسي قريبه الإنسان المريض الجائع، وإن كان قد تساهل بالسماح له بالبقاء أمام بيته. لم يرحم أخاه الإنسان كما يوصي دينه. ولأنه لم يزرع محبة، لا يمكنه أن يحصد محبة. وكل المال الذي كان يملكه لم ينفعه في نهاية الأمر.

إن مقاييس السماء تختلف عن مقاييس الأرض. والسماء تقيس الإنسان بمقياس الإيمان العامل بالمحبة. ولم يذكر لنا الإنجيل إسم الغني. لنضع إسمنا مكانه. فقد يكون هذا الغني نحن أنا أو أنت. فإذا كنا لا نزرع في هذه الحياة إلا قسوة وجحوداً وجمود قلب فما الذي عسانا أن نحصده في الأبدية! من يزرع حباً يحصد حباً، وقد يحصد كراهية بسبب جحود الإنسان وتنكره للجميل. ولكن من يزرع كراهية فلا بد أن يجني كراهية وقد يجني أحياناً كراهية أشد وأدهى.

لقد وضع يسوع نفسه عنا على الصليب. وصليبه نداء صارخ لنا يشهد بمحبة الله لنا. المحبة التي تأخذنا كما نحن وتغفر لنا كي لا يهلك كل من يؤمن به. بل تكون له الحياة الأبدية. على عكس الغني كان الشخص الآخر في المثل. كان إنساناً فقيراً، معدماً، مريضاً، بائساً؛ يعيش على الصدقات التي يتصدق بها الناس عليه. وكان أفضل مكان بالنسبة إليه بجانب بيت الغني. فكان طعامه الفضلات التي تفضل عن الغني. ومات لعازر كما عاش. لم يذكره أحد. لم تبكه عين. ولم تفه شفة بكلمة على قبره. ولم يضع أحد إكليلاً من الزهر على قبره. ودفن بدون خطب أو عبارات رنانة.

ومع ذلك يقول الإنجيل: «وحملته الملائكة إلى حضن إبراهيم». ولم يذكر الإنجيل إسمه عرضاً لأن كلمة لعازر مرادف آخر لإسم يسوع وتعني «المعين». ويشير يسوع به من طرف خفي إلى ما تحمله هو نفسه من فقر وفاقة ورفض وصليب دون تذمر أو شعور بالإنتقام.

ويسوع يقول لنا من خلال المثل: «الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا. لأَنَّ مَنْ يَزْرَعُ لِجَسَدِهِ فَمِنَ الْجَسَدِ يَحْصُدُ فَسَادًا، وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً» (غلاطية 6: 7 و8).

لعازر أمام دارك. فما الذي قدمته له؟! ما الذي صنعته لأجله؟!