العودة الى الصفحة السابقة
المَوعِظة عَلى الجَبل

المَوعِظة عَلى الجَبل

«وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ» (متّى 1:5 و2).

جون نور


كان يسوع قد قضى الليل كله في الصلاة لله. ولما كان النهار دعا تلاميذه واختار منهم إثني عشر الذين سَمّاهم رُسلاً. ونزل معهم ووقف في موضع سهل هو وجمع مِن تَلاميذه الآخرين وجُمهور غَفير من الشَعب. ثم رَفع عَينَيّه إلى تَلاميذه وَوَجّه إلَيهُم كَلِمات العِظة الخَالِدة العظة على الجبل وقد حَوَت شَيئاً مِن أثمَن جَواهِر السَماء قَدّمها كَالعُقد المَنظوم أخّاذة لماعة غَالِيّة الثَمَن!!

وقد بَدأ يسوع عظته بِتَطويبات عرفت فيما بَعد بِالتَطويبات السَبع،انذهل الناس منها لأنها خَالَفت كُل مَألوف. فَقَد طَوّب المَساكين والحَزانَى والوُدعاء والجِياع والعِطاش إلى البِرّ والرُحماء والأنقِياء القَلب وصَانِعي السَلام والمَطرودين مِن أجِل البِرّ. وخَتم التَطويبات بِالكَلِمات. «طُوبَى لَكُمْ إِذَا عَيَّرُوكُمْ وَطَرَدُوكُمْ وَقَالُوا عَلَيْكُمْ كُلَّ كَلِمَةٍ شِرِّيرَةٍ، مِنْ أَجْلِي، كَاذِبِينَ. اِفْرَحُوا وَتَهَلَّلُوا، لأَنَّ أَجْرَكُمْ عَظِيمٌ فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 11 و12).

وبعد أن ختم التَطويبات أعلن لِلتلاميذ أنهم ملح الأرض ونور العَالم ووجّه أنظارهم إلى ما في هذا المَقام الكَبير المُمتاز من مَسؤولِيّات. أخصّها المُحافَظة عَلى مُلوحِة الملح وعلى ديمومة النور. وختم هذا الجزء بالكلمات «فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 16).

كلمهم عن خطيّة القَتِل. فقال إن النَاموس يقول لا تقتل ولكنه أشار إلى أن هُناك قَتلاً أعظَم من قتل الجَسد فالغضب مثلاً هو الجُرثومة الأولى للقتل. لذلك أعلن «إِنَّ كُلَّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ بَاطِلاً يَكُونُ مُسْتَوْجِبَ الْحُكْمِ» (متّى 5: 22). ومن انفعل على أخيه وشَتمه قَائِلاً يا أحمَق أو ما شابهها فإنه يعتبر مرتكباً ما يساوي جريمة القتل.

والمثل الثاني الذي قَدّمه عن تفسير القُدماء للناموس هو مثل الزِنا. وقد اعتبر القُدماء الزِنا خطية تعاقب إذا تمت حرفيّاً. أما السيد فقال إن الخطية أعمق من العمل. إنها تمتدّ إلى البذرة الأولى، إلى الشَهوة. وأن من نظر إلى امرأة واشتهاها فقد زنى بها في قلبه. وبيّن لليهود أن قوانين الطلاق التي سنّوها، فيها الخطأ الذي يدفع إلى الزنا. ذلك أن الطلاق لا يجوز إلاّ لسبب واحِد. أما وهُم يُطلِقون لكل سبب فإن طلاقهم باطل والزواج من النساء المُطلّقات هذا الطلاق الباطِل هو زِنا!!

أما المثل الثالث الذي قدّمه السيّد فكان يتصلّ بالحلف ولقد كانت الوصيّة «للاَ تَنْطِقْ بِاسْمِ الرَّبِّ إِلهِكَ بَاطِلاً» (خروج 20: 7 وتثنية 5: 11) أي لا تتلفّظ بإسم الله من دون داعٍ كَبير. وختم إعلانه بالقول «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ» (متّى 5: 37).

والمثل الرابع الذي قَدّمه كان عن شريعة الانتقام التي استمدّها الآباء من شريعة القَصاص فقد قالوا، عين بِعين وسِن بِسن، أما هو فأعلن أن أعظم انتِصار على الشَرّ هو أن «لاَ تُقَاوِمُوا الشَّرَّ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأَيْمَنِ فَحَوِّلْ لَهُ الآخَرَ أَيْضًا» (متّى 5: 39).

ثم المثل الخامس كان عن العِلاقة بين القَريب والعدوّ فقد وضع الأقدمون لذلك شريعة مُلخّصها «تُحب قريبك وتُبغِض عَدوّك» أما هو فقال «أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ» (متّى 5: 44) وختم إعلانه هذا بالكلمات «فَكُونُوا أَنْتُمْ كَامِلِينَ كَمَا أَنَّ أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ هُوَ كَامِلٌ» (متّى 5: 48).

بعد أن فرغ من موضوع الناموس ألقى لهم تعليمه عن الإخلاص في الدِّين وذكر موضوع الصلاة والصيام والصدقة التي هي أبرز مظاهر التديّن وطلب من تلاميذه أن يبتعدوا كل البعد عن رياء المُنافقين، فإن البعض كانوا إذا صلّوا انتخبوا لأنفسهم مكاناً ظاهِراً يُصلّون فيه حتى يراهم الناس، وكانوا يتعمدون إطالة الصلاة ويُكررون الكلام، كانت صلواتهم في الواقع للناس لا لله – وطلب يسوع منهم أن يصلوا لله لا للناس وللآب السَماوي ويُقلّلون الكَلام في حضرته.

وبعد ذلك ألقى يسوع عَدداً من النصائِح الذهبيّة. أما أوّلها فَالتَحذير من دَينونِة الآخرين إذ أن الوَاجِب أن يصلح المرء من شأن نفسه قبل أن ينتقد الآخرين ما أكثر من يرون القَذى في عيون الآخرين بينما توجد خشبة كبيرة في عيونهم. هؤلاء مُراءون مُنافِقون!!

وآخر نَصائِحه الاحتِراس من الأنبِياء الكَذبة. وقد أعطَى تَلاميذه ميزاناً يَعرِفون به حَقيقة الأنبِياء وهو «مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ» (متّى 7: 16) وندّد بالذين يَدعون أنهم لِلمَسيح ولكن حياتهم تَدلّ على أنهم للشيطان وقال أن كَثيرين سيقولون له في يَوم الدَينونة أنهم أكلوا وشربوا قُدّامه، وأنه علّم في شَوارِعهم وأنهم أخرجوا شَياطين باسمه. ولكنه سيردّهم قَائِلاً: «اذهبوا عني لا أعرفكم، اذهبوا عني يا جميع فاعلي الظُلم» – وما أجمل الكَلِمات التي بدأ به تلك الكلمات المُقدّسة «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ. بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 7: 21) وبذلك كشف المُعلّم خطأ جَسيماً كان الفَرّيسيّون يَرتكبونه إذ كانوا يستندّون عَلى مَظاهِر العِبادة من صَلاة وتِلاوة أدعية ولَكِنه أراهُم أن الأمِر أعمَق مِن ذَلِكَ. إن الحَياة تَتجلّى في العَمل. كَما أن الشَجرة تُعرَف مِن ثَمرها!!

وختم المُعلّم هذه العِظة الخَالِدة بذلك المِثال الرَائِع عَن البَيتين، المِثال الذي يُميّز بين من يسمع ويَعمل وبين من يسمع ولا يعمل قال إن الأول بنى بيت على أساس يثبت دائِماً في وقت الهدوء وفي وقت العواصف بِخِلاف الآخر الذي بني من دون أساس فإنه قد يَثبت مُدّة حتى إذا مَا جَاء العَاصِف كَشفه!!