العودة الى الصفحة السابقة
بريسكلا

بريسكلا

جون نور


«سَلِّمُوا عَلَى بِرِيسْكِلاَّ وَأَكِيلاَ»(رومية 16: 3).

الاسم الأصلي لبريسكلا يعني (القديمة).. كانت بريسكلا صورة ونموذجاً للمرأة القديمة، المرأة التي قيدتها الأجيال، وطوقتها بأستار من الظلم والجهل والاستبداد، المرأة التي كانت ترزح تحت أعباء ثقال من البؤس واليأس والشقاء حتى جاءتها لمسة المسيح ففكت أسرها، وبعثت منها مخلوقاً حياً حراً كريماً، يدعونه اليوم، الجنس اللطيف أو النصف الأفضل، في عالمنا..دعونا إذن نتأمل بريسكلا في كلمتين: المرأة التي لمستها يد المسيح وبركات هذه اللمسة.

لهذه المرأة، كما اسمان، فريسكا وهو اسمها الأصلي، وقد ذكر في الرسالة الثانية إلى تيموثاوس، ويعني القديمة، وبريسكلا أي (القديمة قليلاً)، وهو اسم التدليل الذي كانت تنادى به، على أن هذا الاسم يشير أيضاً إلى أنها امرأة كانت على شيء كبير من قوة الأنوثة وجاذبيتها، هذه المرأة نراها في سفر الأعمال زوجة لرجل يهودي اسمه أكيلا بنطي الجنس، وأغلب الظن أنها ليست يهودية، بل كما يفهم من اسمها، إنها كانت رومانية، ويرجح البعض أنها كانت تنتمي إلى الطبقة الارستقراطية العالية في عاصمة الرومان.

هل عرفت بريسكلا المسيح قبل التقائها ببولس!؟ وهل آمنت بمخلصنا في مدينة روما في الكنيسة التي لم يكن لبولس يد في إنشائها!؟ أغلب الظن أن بولس كان هاديها إلى المسيح، وأغلب الظن أن يد العناية الرفيقة أعدت هذا اللقاء الذي خرجت منه بريسكلا امرأة مسيحية عظيمة ممتازة.

كان أكيلا وبريسكلا نموذجاً طيباً للبيت السعيد، فهما الزوجان المتحابان اللذان يواجهان الحياة في كل أوضاعها معاً، وهل ترى أحدهما في لحظة متباعداً عن الآخر.. كلا!! ولكن الأمر البديع حقاً أنه في أغلب التحيات كانت بريسكلا أولاً وقبل أكيلا، ألا أنها هي الجانب الأقوى في البيت والرفيق الأفضل!؟

لم يكن بيت بريسكلا وأكيلا بيتاً فقط، ولكنه كان كنيسة أيضاً، وحيثما تنقل هذان الزوجان كانا يجعلان من بيتهما كنيسة، ففي كورنثوس أو أفسس أو روما نسمع تحية الرسول (إلى الكنيسة التي في بيتهم) وما أجل هذا الوصف وأبدعه!! ما أجل أن يتحول البيت للعبادة وخدمة الله!!.. لست أدري أكان هذا البيت وسيعاً أو ضيقاً، كبيراً أو صغيراً، مفروشاً بالأثاث الفاخر والأرائك أم مجرداً من الزينة والأثاث!؟ لم يحدثنا كتاب الله عن شيء من هذا، فهذه أشياء تبيد وتنتهي، ولكنه حدثنا عن شيء خالد مجيد، عن كنيسة في بيت!!

والحق أن بولس يدهشنا هنا!! كنيسة في بيت!! ألا يشترط في الكنيسة أن تكون ذات قباب وأعمدة وأبهة!؟ ألا يشترط أن تكون لها الأجراس الفخمة ذات الرنين البعيد!؟ ألا يشترط أن تكون على هذا الوضع أو ذاك في شكلها ومقاعدها ومنبرها وخدامها!؟ ولا شك أن الكنيسة الصغيرة في بيت بريسكلا كانت تضم أفراد البيت والعاملين مع الزوجين في حرفتهما، والصحابة، والجيرة، وكل من يدعون باسم الرب يسوع.

لا نعرف كثيراً عن المجهودات العظيمة التي قامت بها بريسكلا في خدمة الله، وكم خلصت نفوساً، وقادت رازحين ومتعبين وثقيلي أحمال إلى معرفة الفادي والمخلص!! سنقرأ في السفر الأبدي يوماً ما كثيراً مما عملت هذه المرأة، لكن كتاب الله شاء أن يبين لنا عملاً مجيداً كان له أكبر الأثر في الكنيسة الأولى، قامت به هذه المرأة مع زوجها حين اقتادا أبلوس إلى معرفة المسيح، وأصبح أبلوس من تلك الساعة الخادم المسيحي الذي قدم خدمات هائلة لمجد الله الخادم الذي أتم خدمة بولس.

سارت الأيام بالرسول العظيم، حتى جاء إلى نهاية حياته الأرضية، وهناك في روما، وفي اللحظة القاتمة، مثلث أمام عينيه، وفي سجنه الأخير، حيث قال المسرحية المحزنة: سخرية الاتهام، والخيانة البشعة، حين تولى عنه جميع الأصدقاء (الجميع تركوني) على أنه في تلك الفترة الدقيقة، والسيف فوق رأسه، عاد بذكراه إلى الأيام الخوالي العزيزة، وذكر أصدقاؤه الأوفياء الأعزاء، أصدقاء أفسس الذين ثبتوا معه في المحنة الألم والأحزان، بيت أنيسيفورس الذي أراحه ولم يخجل بسلسلته وبريسكلا وأكيلا اللذين وضعا عنقيهما لأجله، فتنسم رائحة الراحة والبهجة والذكرى العزيزة، وكتب إلى تلميذه قبل أن يضع قلمه الجبار، ويجود بأنفاسه الأخيرة، حيث يقول: «سلم على فريسكا وأكيلا وبيت أنيسيفورس».

وهكذا شاءت نعمة الله للرجل العظيم، ألا يحرم في أرض الخيانة والموت، ومن ومضة بهية، تضيء ظلمات سجنه، وتقنعه وهو يودع العالم أن الأرض بخير، وأنها لا يمكن أن تخلو أبداً من الأحباء الأوفياء الخالدين..