العودة الى الصفحة السابقة
حِجّي

حِجّي

جون نور


«هَلِ الْوَقْتُ لَكُمْ أَنْتُمْ أَنْ تَسْكُنُوا فِي بُيُوتِكُمُ الْمُغَشَّاةِ، وَهذَا الْبَيْتُ خَرَابٌ؟» (حجّي 4:1).

تعد ديانة الإنسان من كل وجه، الحقيقة الأساسية بالنسبة له، لأيّ إنسان أو أيّة أمة من الناس،... إنه الشيء الذي يؤمن به الإنسان عمليّاً،... ويضعه في قلبه، ويرتبط به في هذا الوجود السري، ويرى حياته ومصيره هُناك، نقرأ في سفر حجّي كيف عاد الرعيل الأول من اليهود من السبي، وكانت رغبتهم الأولى بناء بيت الله، ولعلّهم كانوا جذوة مُلتهبة من الحماس والرغبة في أن يروا هذا البيت قائِماً في أسرع وقت، ولكن العقبة تلو العقبة ظهرت أمامهم في الطريق، وإذا بِالجذوة تنطفئ، وإذا بهم ينصرفون عن العمل، وتنقضي ستة عشر عاماً بعد وضع حجر الأساس دون أن يُحرّكوا ساكِناً،... إن الخراب في حدّ ذاته قاس، وهو مُناقض لمشاعر الله وقلبه، وهو لا يستطيع أن يبصره دون حزن وألم، وعندما خلق عالمنا لم يستطع أن يبقى الأرض خربة وخالية، ولمسها لمسة الحياة والجمال والقوة والعمران،... فإذا كان الخراب في ذاته مروّعاً أمام الله، فإن خراب الخراب، إن صحّ التعبير، هو خراب بيوت الله بالذات،... وإذا كان بعض الذين عادوا من السبي، وفي ذكرياتهم القديمة – وهم شيوخ تجاوزوا السبعين عاماً – صورة بيت الله العظيم الذي قوّضه نبوخذ نصر وأتى عليه بعد كل المجد الذي كان عليه، والجهد الخارق للعادة الذي بذله سليمان في بِنائه.

إذاً لماذا يترك هذا البيت يخرب ويُنجّس؟ ولِماذا يسمح بأن تمتدّ إليه معاول الهدم، على الصورة البشعة المُتكرّرة في التاريخ؟؟. ولمِاذا يسمح بأن تقوض كنائس وتخرب أو تغلق أبوابها؟!. إن الجواب الواضِح لا يُمكِن أن نجده بعيداً عن يسوع المسيح، الذي كشف عن أمرين جوهريين أساسيين في قلب الله، أوّلهما غيرته المُطلقة على هذا البيت، الغيرة التي جعلته يصنع سوطاً، ويُطهّر الهيكل، من الباعة، والصيارفة، والرؤساء، الذين حوّلوا البيت إلى مغارة لصوص،.. والصورة الثانية هي نبوّته عن الهيكل، عِندما تفاخر التلاميذ بِعظمة بِنائه، وأكدّ لهم أنه سيهدم حتى الأساس دون أن يترك حجر على حجر لا ينقض!!...، وإذا كان المسيح قد واجه خطيّة العالم بِصليبه العظيم، فإنه لا يُمكِن أن تغلق كنيسة أمام عينيّه دون أن يطعن مرّة أخرى في جنبه بِحربة الصليب!!...

من المؤسِف أن الشعب أيام حجّي، عندما تركوا بيت الله بعد أن وضعوا الأساس، حملوا أدواتهم معهم، أدوات البناء، ليبني كل واحد بيته، ومسكنه، ودائِرته الخاصة،.. ومن العجيب أن جميع الاعتذارات التي منعتهم من بناء بيت الله، تلاشت، وذهبت كالبخار... كانوا فقراء عن الإنفاق، وقد عادوا من السبي، وكان عُذرهم الحاجة وضيق ذات اليد،.. لكن هذا العذر لم يظهر، وهم يبنون بيوتهم على الشكل الفخم، والصورة الجميلة،... كانوا خائِفين مُتعبين منهكي القوى، لعلّ غيرهم يأخذ مكانهم في بِناء بيت الله،.. أمّا في بناء بيوتهم، فهم لا يعرفون الراحة أو الهدوء، حتى يخرج كل شيء على الوجه الأجمل والأكمل!!...

إن قلب المسيحية العظيم صليب حمله سيدها، ودعا إليه أتباعه على الدوام: «إِنْ أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَأْتِيَ وَرَائِي، فَلْيُنْكِرْ نَفْسَهُ وَيَحْمِلْ صَلِيبَهُ كُلَّ يَوْمٍ، وَيَتْبَعْنِي» (لوقا 23:9).

إن المسيح لم يدع أتباعه لِيعيشوا أطفالاً، بل لِيضحّوا أبطالاً،.. وهو لم يدعهم إلى نزهة خلوية، بل إلى معركة دامية!!.. وهو يقول هنا لبناة بيت الله: «اِصْعَدُوا إِلَى الْجَبَلِ وَأْتُوا بِخَشَبٍ وَابْنُوا الْبَيْتَ، فَأَرْضَى عَلَيْهِ وَأَتَمَجَّدَ، قَالَ الرَّبُّ». (حجّي 8:1) إنها معركة الصعود إلى الجِبال، وقطع الأخشاب هُناك، وحملها، مهما يكلف ذلك من مشقّة أو عرق أو دموع،... وهو عمل الله الذي يدعو إليه من ينبغي أن يُكافِحوا ويُبذِلوا: «فَاشْتَرِكْ أَنْتَ فِي احْتِمَالِ الْمَشَقَّاتِ كَجُنْدِيٍّ صَالِحٍ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ» (2تيموثاوس 3:2) أجل!! وليس في المسيحية أو في عمل الله إكليل دون جهاد أو صليب!!....

الأمة اليهودية لم تصل في روحها إلى ما وراء الطقوس والفرائض، سلباً وإيجاباً، بل هي تقف عند المُنجس أو غير المُنجس، دون أن تبلغ اللباب الذي تحدّث عنه المسيح، عندما سألته السامرية السؤال الطقسي أو الفرضي: «آبَاؤُنَا سَجَدُوا فِي هذَا الْجَبَلِ، وَأَنْتُمْ تَقُولُونَ إِنَّ فِي أُورُشَلِيمَ الْمَوْضِعَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُسْجَدَ فِيهِ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: يَا امْرَأَةُ، صَدِّقِينِي أَنَّهُ تَأْتِي سَاعَةٌ، لاَ فِي هذَا الْجَبَلِ، وَلاَ فِي أُورُشَلِيمَ تَسْجُدُونَ لِلآبِ. أَنْتُمْ تَسْجُدُونَ لِمَا لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ، أَمَّا نَحْنُ فَنَسْجُدُ لِمَا نَعْلَمُ. لأَنَّ الْخَلاَصَ هُوَ مِنَ الْيَهُودِ. وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا» (يوحنا 20:4 – 24).

لقد هدم نبوخذ نصر هيكل سليمان، وهدم تيطس الروماني الهيكل الذي بناه هيرودس في ست وأربعين سنة، وتبعثر اليهود في كل أركان الأرض، ونهضت كنيسة المسيح التي لا تقهر، ومجدها يملأ كل الأرض،.. وستبقى حتى تعود له كنيسة مجيدة لا دنس فيها أو غضن، أو شيء من ذلك عِندما تنزل من السماء، عروساً مُزيّنه لِرجلها: « مَجْدُ هذَا الْبَيْتِ الأَخِيرِ يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ مَجْدِ الأَوَّلِ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَفِي هذَا الْمَكَانِ أُعْطِي السَّلاَمَ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ» (حِجّي 9:2).

أعزائي المستمعين بيت الرب في العهد الجديد هم المؤمنون الذين يجتمعون باسمه حيث يقول: «حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسْطِهِمْ» (متّى 18: 20) في القديم كان الحجاب يفصل بين الله والناس وفي المسيح وموته على الصليب أنشق هذا الحجاب ودخلنا إلى مجد الله الآب.