العودة الى الصفحة السابقة
ناحوم

ناحوم

جون نور


«اَلرَّبُّ إِلهٌ غَيُورٌ وَمُنْتَقِمٌ» (ناحوم 2:1).

الاسم «ناحوم» يعني «تعزيّة»، ارتبط مِعنى اسمه بِالرسالة التي أُتيح له أن يحملها فيما بعد، فلئن كانت رِسالته لأمته تحمل التعزية لها في مِحنتها ومتاعبها وآلامها، فإنه هو شخصيّاً كحامل الرِسالة، كان الرجل اللازِم في وقت المِحنة والآلام،. وقد أُطلق عليه «الألقوشي»، نِسبة إلى قرية في الجليل اسمها «القوش»

كانت له الرؤية الصافية المُعلنة من الله عن سقوط المدينة العظيمة نينوى!!...سقطت نينوى بسبب فيضان نهر دجلة، الفيضان الذي حطّم أبواب الخزّان فغرقت المدينة في المياه، ومكنّت الِمُهاجمين من اقتحامها، ودكّ حصونها،... وهذا ما ذكره ناحوم بالضبط في نبوّته عنها: «أَبْوَابُ الأَنْهَارِ انْفَتَحَتْ، وَالْقَصْرُ قَدْ ذَابَ... وَنِينَوَى كَبِرْكَةِ مَاءٍ مُنْذُ كَانَتْ، وَلكِنَّهُمُ الآنَ هَارِبُونٌَ» (ناحوم 6:2 – 8)..

عِندما سقطت نينوى العظيمة، كان سقوطها رهيباً وشامِلاً، وقد رآه ناحوم في النبوّة كالتين الذي يسقط في فم الآكِل عِندما يهزّ الشجرة: «جَمِيعُ قِلاَعِكِ أَشْجَارُ تِينٍ بِالْبَوَاكِيرِ، إِذَا انْهَزَّتْ تَسْقُطُ فِي فَمِ الآكِلِ».. (ناحوم 12:3). وعِندما نسأل عن السرّ في ذلك، نتحول من البشر إلى الله العلي!!... «اَلرَّبُّ إِلهٌ غَيُورٌ وَمُنْتَقِمٌ. الرّبُّ مُنْتَقِمٌ وَذُو سَخَطٍ. الرّبُّ مُنْتَقِمٌ مِن مُبْغِضِيهِ وَحَافِظٌ غَضَبَهُ علَى أَعْدَائِهِ. الرَّبُّ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَعَظِيمُ الْقُدْرَةِ، وَلكِنَّهُ لاَ يُبَرِّئُ الْبَتَّةَ. الرَّبُّ فِي الزَّوْبَعَةِ، وَفِي الْعَاصِفِ طَرِيقُهُ، وَالسَّحَابُ غُبَارُ رِجْلَيْهِ. مَنْ يَقِفُ أَمَامَ سَخَطِهِ؟ وَمَنْ يَقُومُ فِي حُمُوِّ غَضَبِهِ؟ غَيْظُهُ يَنْسَكِبُ كَالنَّارِ، وَالصُّخُورُ تَنْهَدِمُ مِنْهُ. صَالِحٌ هُوَ الرَّبُّ. حِصْنٌ فِي يَوْمِ الضَّيقِ، وَهُوَ يَعْرِفُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْهِ. وَلكِنْ بِطُوفَانٍ عَابِرٍ يَصْنَعُ هَلاَكًا تَامًّا لِمَوْضِعِهَا، وَأَعْدَاؤُهُ يَتْبَعُهُمْ ظَلاَمٌ» (ناحوم 2:1 – 8). ومع أن الله قد استخدم الكِلدانيين في القضاء عليهم، لكن الكِلدانيون ليسوا إلاّ عصا الرب وأداة انتقامه،...

والله يبدو هُنا الإله الساخِط في مُواجهة الإثم والخطيّة والشرّ، لأن هُناك تنافراً أبدياً بينه وبين الفساد، وهو لا يطيق الإثم قبل ذلك بمائة وخمسين عاماً رحم الله نينوى رحمة واسِعة وضاق بها يونان واغتاظ من أجلها،.. لكن رحمة الله الواسِعة كان لا بُدّ أن تعمل في إنقاذ المدينة،.. والله كما وصفه ناحوم بطيء الغضب،.. لكن بطء الغضب شيء والسكوت على الإثم وعدم المُبالاة شيء آخر، ونحن لا بُدّ أن نتذكّر أن الله «غيور ومُنتقم» وغيرة الله وقائِد أبدية،.. وصانِع الشمس المُلهبة، التي ترسل نارها على الدوام، لا يُمكن أن تكون طبيعته طبيعة بارِدة، لا تفرق بين شر وخير، وبين حق وباطل، وبين إثم وبر،.. لأن إلهنا نار آكِلة!!... وإذا كان الإنسان الحُر يثور ضِد الظُلم والفساد والشرّ، وهو على استعداد أن يُبذل حياته للدفاع عن كل قضية عادلة،.. فإن صانع هذا الإنسان، هيهات أن يكون أضعف غيرة منه، أو أقلّ سخطاً، على الأوضاع المقلوبة في الأرض..

على أن الله ليس هو الإله الذي يسخط فحسب، بل هو الإله القادِر في سخطه على أن يقلب الأرض كلها بإصبعه، أو بأقل حركة من أصبعه، وهو الذي يأتي بالطوفان العابر عند ثورة غضبه،... إن البشر قد يُحوّلون غضبهم إلى بكاء أو دموع أو ثورة فاشِلة،... لكن الله إذا كان بطيء الغضب، لكنه في الوقت نفسه عظيم القُدرة، ومن يقف أمام سخطه، ومن يقوم في حمو غضبه!!...

مِن الحق أن الرب طيّب ولا حدود لطيبته،... ولكن من أكبر الحماقات التي يرتكبها الإنسان، أن يتصوّر الطيبة الإلهية بالمعنى «الله الطيب» والمقصود المُتساهل تِجاه الخطية، والذي يتجاوز عن الإثم، والذي يقف موقف الإهمال وعدم المبالاة أمام صنوف الظُلم والطُغيان والاستبداد، وهُنا ينسى مثل هذا الإنسان، أنه لا يوجد من يجمع بين اللُطف والصرامة على النحو الكامل المُطلق سِوى الله!!... والله لطيف رحيم لكل من يأتي إليه تائِباً مقراً بإثمه وقصوره وشرّه،... ولكنه هو أيضاً، كما وصفه أيوب في الأصحاح التاسع من سفره: «هُوَ حَكِيمُ الْقَلْبِ وَشَدِيدُ الْقُوَّةِ. مَنْ تَصَلَّبَ عَلَيْهِ فَسَلِمَ؟ الْمُزَحْزِحُ الْجِبَالَ وَلاَ تَعْلَمُ، الَّذِي يَقْلِبُهَا فِي غَضَبِهِ. الْمُزَعْزِعُ الأَرْضَ مِنْ مَقَرِّهَا، فَتَتَزَلْزَلُ أَعْمِدَتُهَا. الآمِرُ الشَّمْسَ فَلاَ تُشْرِقُ، وَيَخْتِمُ عَلَى النُّجُومِ. الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ وَحْدَهُ، وَالْمَاشِي عَلَى أَعَالِي الْبَحْرِ. صَانِعُ النَّعْشِ وَالْجَبَّارِ وَالثُّرَيَّا وَمَخَادِعِ الْجَنُوبِ. فَاعِلُ عَظَائِمَ لاَ تُفْحَصُ، وَعَجَائِبَ لاَ تُعَدُّ»... (أيوب 4:9 – 10) كان الله الإله الرحيم على نينوى التائِبة يوم يونان، والمُنتقِم على عِصيانها يوم ناحوم!....

ومن اللازِم أن نُشير هُنا إلى تبدّل المواقِع وتغيّر الأوضاع، وابتداء القضاء من بيت الله، فإذا كان الله قد أهاج الأشوريين أو الكِلدانيين على إسرائيل ويهوذا لِخطيّتهما وإثمهما، إلى الدرجة التي قال معها سنحاريب لِحزقيا – يدري أو لا يدري مِعنى قوله: «وَالآنَ هَلْ بِدُونِ الرَّبِّ صَعِدْتُ عَلَى هذِهِ الأَرْضِ لأُخْرِبَهَا؟ الرَّبُّ قَالَ لِي: اصْعَدْ إِلَى هذِهِ الأَرْضِ وَاخْرِبْهَا».. (إشعياء 10:36) فإن هذا الإله عينه هو الذي يتحوّل على الطُغاة ليردّ سبي شعبه لِلسبب عينِه، عِندما يتوبون ويرجعون إليه، وعِندما يستمرّ الطُغاة في شرّهم وظُلمهم وإثمهم، كما قال ناحوم: «قَدِ ارْتَفَعَتِ الْمِقْمَعَةُ عَلَى وَجْهِكِ. احْرُسِ الْحِصْنَ. رَاقِبِ الطَّرِيقَ. شَدِّدِ الْحَقْوَيْنِ. مَكِّنِ الْقُوَّةَ جِدًّا. فَإِنَّ الرَّبَّ يَرُدُّ عَظَمَةَ يَعْقُوبَ كَعَظَمَةِ إِسْرَائِيلَ، لأَنَّ السَّالِبِينَ قَدْ سَلَبُوهُمْ وَأَتْلَفُوا قُضْبَانَ كُرُومِهِمْ» (ناحوم 2: 1 - 2)... ومقمعة الله في كل التاريخ والعصور مرفوعة لِتضرب كل وجه يتعظّم في حضرة الله، أو يستبدّ أو يُطغي أو يرتكب إثماً وشراً في حضرة إله قادِر حيّ دائِم مُنتصر مُمجدّ!!....

لنتعلم أن نتواضع أمام حضرة الإله القادر ونذكر أننا من تراب وغبار نحن لأنه عندما نتواضع يرفعنا الله إليه ويعطينا نعمة وبركة.