العودة الى الصفحة السابقة
مريم المجدلية

مريم المجدلية

«مَرْيَمُ الَّتِي تُدْعَى الْمَجْدَلِيَّةَ الَّتِي خَرَجَ مِنْهَا سَبْعَةُ شَيَاطِينَ» (لوقا 8: 2).

جون نور


مريم المجدلية فتاة من بلدة مجدل الواقعة غرب بحر الجليل، عند المدخل الجنوبي لسهل جنيسارت، ويظن بعضهم أن الكلمة مجدل تعني «الحصن» إشارة إلى أنها كانت حصناً على الطريق المؤدي إلى السهل، بينما يرجح آخرون، ولعله الأصح، أن الكلمة مأخوذة من جدائل الشعر، نسبة إلى جمال موقعها، وجمال سيداتها المجدولات الشعور، ومن هنا رسم الفن المجدلية ذات جمال رائع أخاذ غير عادي طويلة الشعر مجدولته حيناً مسترسلته حيناً آخر، على أننا نعلم، على وجه التحقيق، أنها كانت فتاة غنية استطاعت أن تمد المسيح مع أخريات بما كان يحتاج إليه من أموال، ولعلها كانت تنتمي إلى بيت ذائع الصيت في ذلك الوقت، كانت شديدة الحساسية ملتهبة الشعور يقظة العاطفة، وقد حاول بعض النقاد أن يردوا هذا إلى تأثيرات ماضيها المعذب. ولكننا قد نكون أقرب إنصافاً، وأكثر صدقاً، إذا قلنا إن هذه الفتاة التي أطل عليها المسيح بعد أن أخرج منها سبعة شياطين، كان لا بد أن تكون فيها دنيا الشعور أوسع من دنيا المنطق، وقدرة الحس أعلى من قدرة التفكير، وإنها كبنات جنسها أكثر استجابة للقلب من العقل، لقد عاشت بشياطينها، في منطقة اللاشعور ردحاً من الزمن ثم تفتحت عيناها لأول مرة على مخلّصها المجيد، فعرفت الدنيا فيه، ومنه وبه، فكان لا بد أن تكون ما كانت، وما بلغت، من هذا الاتجاه العاطفي العميق.

كانت مريم فتاة جميلة مبدعة ثرية بائسة، فيها كل عناصر الجمال الحي المبدع الرائق ولكن هذه العناصر عبثت بها يد الشيطان فذرتها هباء، كانت مريم أشبه بالمصباح الكامل الجميل المستعد أن يرسل أضواء قوية بعيدة مشرقة، ولكن أستاراً كثيفة من الظلام دثرته وغطته، فأخفت وراءها ما يمكن أن يبعث من وهج وجمال ونور.

هي الفتاة التي أشرفت على كل ما يحتاج إليه المسيح من طعام وشراب ولباس ولعلها هي التي نسجت له القميص الذي اقترع عليه يوم الصليب، وهي الفتاة التي كانت تحرص على أن يظل الصندوق عامراً حتى ولو سرق منه يهوذا ما سرق، كان المال أحد الوزنات التي تملكها هذه الفتاة، ولقد أجادت استعماله مع زميلاتها الفتيات.

أيتها السيدات الثريات ما أحوجكن إلى تعلم هذا الدرس، قد لا تستطعن أن تخرجن بأنفسكن للخدمة كالسيد وتلاميذه، وقد لا يكون لكن من الظروف والمجهود والاستعداد ما يمكنكن من التبشير والتعليم والوعظ، وقد لا تكون هذه بعض من هبات الله ووزناته لكنَّ، ولكنكنَّ تستطعن أن توفرن على كل خادم للانجيل تعب التفكير في حاجات الجسد والانشغال بها. كانت مريم ومن معها متابعات للمسيح أينما رحل، قد لا يكون لمريم عمق محبة العذراء، أو علو محبة يوحنا، أو طول محبة بولس، أو عرض محبة بطرس، ولكن من يجاريها في جزالة محبتها وفخامتها وعذوبتها.

في الجلجثة والبستان بدت هذه المحبة عجباً حين اتشحت بالحزن وكساها ثوب الألم لقد انتصرت على كل عوامل الضعف البشري، وضربت أمثل الآيات في الوفاء والولاء والتكريس، لقد تابعت المجدلية المسيح في المحاكمة وعلى الصليب وفي القبر، قضت الليل كله تجاه القبر حتى ختم في صباح اليوم التالي، وفي يوم القيامة كانت أسبق الجميع إليه، بل كانت بين أورشليم والقبر جيئة وذهاباً لا تعرف استقراراً وبينما يرجع بطرس ويوحنا مندهشين متعجبين لا تترك هي القبر بل تسكب أمامه دموع المحبة الوفية الحزينة، كما أن رؤياها للملاكين، ومن ظنته البستاني، وحديثها معهما ومعه، يجلان في روعتهما وحقيقتهما عن أسمى خيال طرق فكراً بشرياً... لقد تعلمت من المجدلية كيف تنتصر المحبة على الخوف والرهبة، لقد تعلمت منها كيف أقف إلى جانب مخلصي، حتى ولو انفض الجميع من حوله، لا أظن أن هناك مكافأة أجلّ من تلك التي قالها مرقس في عبارته الخالدة، وهو يتحدث عن قيامة المسيح قائلا : «ظهر أولاً للمجدلية». ولمَ ظهر للمجدلية أولاً؟! ألأنها كانت أحوج الكل إليه!؟ فهل ظهر أولاً للمجدلية لأن دموعها كانت أغزر، وحزنها أشد!؟ قد يكون .....فأنا أعلم أن دموعي تأتي به من أقصى السماوات، وأنا أعلم أن ضيقي يهز قلبه العظيم، وأنا أعلم أنه ما من دموع سكبها إنسان إلا وهزته هزاً، وهل استطاع أن يرى أرملة نايين تودع ولدها الوحيد إلى مثواه دون أن يقف في طريق الموت ليرد الولد إلى أمه!؟ وهل استطاع أن يرى أخت لعازر تبكي دون أن يشاطرها البكاء!؟ فهل يمكن أن يرى دموع مريم دون أن يسرع إليها!؟ أنا أعلم أنه جاء ليمسح دموعها، وليرد إليها العزاء. وليبين لها أن يوم نصرته لا يصح أن يكون يوم دموعها ويوم القيامة لا يمكن أن يكون يوم البكاء..

هناك من يظن أيضاً أن المسيح جاء ليكافئ المرأة في شخص مريم، ويرفع كرامتها المهانة الضائعة، لقد كفرت المرأة يوم الصليب عما فعلته يوم السقوط، إذ انفردت بالولاء له دون الرجل.. ومن ثم كان الرسول الأول للتاريخ والأجيال ببشارة القيام امرأة لا رجلاً.. «فَجَاءَتْ مَرْيَمُ الْمَجْدَلِيَّةُ وَأَخْبَرَتِ التَّلاَمِيذَ أَنَّهَا رَأَتِ الرَّبَّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهَا هذَا» (يوحنا 20: 18).. عندما تذكر النساء وخادمات الانجيل ليتنا لا ننسى أن نضع في الصف الأول أروع بطلات الكتاب المقدس مريم المجدلية..