العودة الى الصفحة السابقة
البشير مرقس

البشير مرقس

جون نور


وُلد مرقس في مدينة أورشليم (القدس)، وكان يهودياً في الأصل. اسم أمه مريم، وكانت تسكن في مدينة أورشليم أيضاً. أما أبوه فلا نعلم عنه شيئاً. ولكن أم مرقس كانت معروفة بإيمانها في الكنيسة المسيحية في بداية عهدها، وعُرف أن بيتها كان مفتوحاً للإخوة المؤمنين ليجتمعوا فيه بحرية للصلاة إلى الإله السماوي كي يساعدهم في نشر بشارة الخلاص بالمسيح يسوع للعالم المعروف في ذلك الوقت. ويُعرف عنها أيضاً بأنها كانت غنية ميسورة الحال بالنسبة إلى سائر المؤمنين يومذاك. وكانت مريم، أخت برنابا الرسول المشهور في الكنيسة المسيحية. في هذا الجو الروحي نشأ مرقس وترعرع على الإيمان يرضعه مع لبن أمه. لهذا كان إيمانه ينمو يوماً بعد يوم بسرعة وبقوة.

سُمي مرقس باسم يوحنا أيضاً كما ورد في سفر أعمال الرسل، وهكذا يُمكننا القول بأن الاسم تغيّر عدة مرات من يوحنا إلى مرقس، وكان محبوباً من جميع الإخوة الذين عرفوه. فلقد دعاهُ بطرس ابنه في الإيمان، وأغلب الظن أن بطرس الرسول هو الذي أرشد مرقس وعرّفه على المسيح كمخلص للعالم من خطاياهم، وعلى يده قَبِل المسيح مخلصاً له. وبذلك كان له كأبٍ روحي، ودعاهُ بطرس بالابن ليُظهر محبته له.

بعد أن كبر مرقس وأصبح شاباً قوي البنية، شديد الإيمان، أحب أن يركب المخاطر ويذهب مع الرسول بولس وخاله برنابا في رحلتهما الكرازية الأولى، ولكنه لم يحتمل فراق أمه الطويل، فترك بولس وبرنابا في برجة، المدينة الصغيرة في مقاطعة بمفيلية في آسيا الصغرى، المعروفة بتركيا حالياً، وعاد إلى أورشليم. وأما في الرحلة الثانية، فقد رفض بولس مرافقة مرقس، فانفصل بولس وبرنابا، وذهب مرقس مع برنابا إلى قبرص حوالي سنة اثنتين وخمسين ميلادية. وفي سنة ستين ميلادية، ذهب مع بطرس إلى بلاد ما بين النهرين، إلى مدينة بابل، ومن ثم ذهب إلى مدينة روما في إيطاليا سنة أربع وستين ميلادية، حيث خدم بولس الرسول في سجنه الأول في روما، وبعدها ذهب إلى أفسس في آسيا الصغرى مع الرسول بولس وتيموثاوس، وكان ذلك سنة ست وستين بعد الميلاد، وآخر رحلاته كانت إلى الإسكندرية في مصر، حيث مات شهيداً ودُفن هناك. ومن ثم نُقل جثمانه إلى مدينة البندقية في إيطاليا.

ترك مرقس الرسول بشارة مجيدة وكتاباً قيماً يخبرنا فيه قصة حياة السيد المسيح، وسمي الكتاب باسم الكاتب، وهو إنجيل مرقس. لا نعلم تماماً متى كتبه، ولكن المرجح أن كتابته كانت بين سنة ثلاثة وستين وثمانية وستين بعد الميلاد. وكذلك لا نعلم مكان كتابته، ولكن نعلم بأن مرقس كتب إنجيله بمُساعدة بطرس الرسول الذي رافق المسيح لحظة بلحظة، وتتبع تعاليمه، وعاين عجائبه وأعماله العظيمة. وهكذا أخبر بطرس الرسول مرقس بكل ما عرفه عن يسوع وبكل ما سمعه وشاهده منه، فجاءت كتابات مرقس مركزة، صحيحة، وواضحة، حتى أنها تجعل الصورة لحادثة ما حقيقة تتحرك أمام السامع. لقد نجح مرقس في إنجيله بإظهار الحقائق الإلهية بطريقة واضحة ومبسطة.

اختار مرقس الرسول خدمة الرب يسوع المسيح منذ نعومة أظفاره. فبدل أن يلهو ويلعب مع أترابه، وجّه اهتمامه نحو السفر إلى بلاد يجهلها، بعيداً عن بيت أمه حيث الدفء والمحبة والعطف. لقد ضحى مرقس بحياته الهادئة الهانئة، وحشر نفسه في صعوبات كثيرة غير مهتم بمنفعته الشخصية ومجده، بل إلى مجد السيد المسيح. فعل كل هذا لأنه أحب كل الناس، حتى الذين لم يَرَ وجوههم، وأراد إيصال رسالة الخلاص لهم، تلك الرسالة التي قضى المسيح لأجلها على الصليب. لم يخف مرقس من الأهوال وصعوبات السفر، لأن سلام المسيح كان في قلبه الصغير. آمن بالمسيح، فوهب له حياته غير آبه بمغريات هذه الحياة الفانية، ولا بملذاته الشخصية أو هواياته المحببة. أتخيله شاباً لطيفاً وسيم الطلعة، جاد التفكير، يسير وراء هدفه في الحياة، أهتم مرقس منذ شبابه بخدمة المسيح الذي أحبه كثيراً. وكان يعلم بأن المسيح قدم ذاته على الصليب بدل خطاياه بالذات التي كانت ستقوده إلى جهنم. وكذلك كان المسيح ذبيحة بدل خطايا العالم أجمع.

أعزائي المستمعين، إن لأعمالكم اليوم تأثيراً ما على المستقبل القريب والبعيد مهما كان هذا التأثير صغيراً أو كبيراً. ولأعمالكم نتائج مهمة لا تظنون بأنها قد تؤثر في أحد، ولكن بالفعل لها الأثر الكبير على من حولكم أو على من تصل أخباركم إليه. لهذا، فلننتبه لكل ما نعمل أو نقول لأننا سنُحاسب عليه يوماً ما. ولنأخذ من مرقس الشاب مثالاً لنا حين نحدد أهدافنا في الحياة، فنضع المسيح أولاً في حياتنا وهدف جهادنا وعملنا. وهل هذا كثير علينا إذا خدمنا من قدم ذاته عنا؟ لنفتكر كما افتكر مرقس بأنه كان مُستحقاً الموت والعذاب بسبب خطيته، ولكن لفرط محبة المسيح، رفع هذا العذاب عنه. وبدلاً منه أعطى مرقس النعمة والمحبة، ولبس رداء البر والطهارة. واليوم يُعد مرقس من قديسي المسيحية المشهورين، فهل نصبح مثله بعد أن نفهم مقدار محبة المسيح لنا، فنحيا للمسيح كما مات هو لأجلنا، ونمجد أسمه في حياتنا.