العودة الى الصفحة السابقة
حنان وقيافا

حنان وقيافا

جون نور


«57 وَاٰلَّذِينَ أَمْسَكُوا يَسُوعَ مَضَوْا بِهِ إِلَى قَيَافَا رَئِيسِ اٰلْكَهَنَةِ، حَيْثُ اٰجْتَمَعَ اٰلْكَتَبَةُ وَاٰلشُّيُوخُ. 58 وَأَمَّا بُطْرُسُ فَتَبِعَهُ مِنْ بَعِيدٍ إِلَى دَارِ رَئِيسِ اٰلْكَهَنَةِ، فَدَخَلَ إِلَى دَاخِلٍ وَجَلَسَ بَيْنَ اٰلْخُدَّامِ لِيَنْظُرَ اٰلنِّهَايَةَ. 59 وَكَانَ رُؤَسَاءُ اٰلْكَهَنَةِ وَاٰلشُّيُوخُ وَاٰلْمَجْمَعُ كُلُّهُ يَطْلُبُونَ شَهَادَةَ زُورٍ عَلَى يَسُوعَ لِكَيْ يَقْتُلُوهُ، 60 فَلَمْ يَجِدُوا. وَمَعَ أَنَّهُ جَاءَ شُهُودُ زُورٍ كَثِيرُونَ، لَمْ يَجِدُوا. وَلٰكِنْ أَخِيراً تَقَدَّمَ شَاهِدَا زُورٍ 61 وَقَالاَ: «هٰذَا قَالَ إِنِّي أَقْدِرُ أَنْ أَنْقُضَ هَيْكَلَ اٰللّٰهِ، وَفِي ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ أَبْنِيهِ». 62 فَقَامَ رَئِيسُ اٰلْكَهَنَةِ وَقَالَ لَهُ: «أَمَا تُجِيبُ بِشَيْءٍ؟ مَاذَا يَشْهَدُ بِهِ هٰذَانِ عَلَيْكَ؟» 63 وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ سَاكِتاً. فَسَأَلَهُ رَئِيسُ اٰلْكَهَنَةِ: «أَسْتَحْلِفُكَ بِاٰللّٰهِ اٰلْحَيِّ أَنْ تَقُولَ لَنَا: هَلْ أَنْتَ اٰلْمَسِيحُ اٰبْنُ اٰللّٰهِ؟» 64 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «أَنْتَ قُلْتَ! وَأَيْضاً أَقُولُ لَكُمْ: مِنَ اٰلآنَ تُبْصِرُونَ اٰبْنَ اٰلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ اٰلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ اٰلسَّمَاءِ». 65 فَمَزَّقَ رَئِيسُ اٰلْكَهَنَةِ حِينَئِذٍ ثِيَابَهُ قَائِلاً: «قَدْ جَدَّفَ! مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ هَا قَدْ سَمِعْتُمْ تَجْدِيفَهُ! 66 مَاذَا تَرَوْنَ؟» فَأَجَابُوا: «إِنَّهُ مُسْتَوْجِبُ اٰلْمَوْتِ». 67 حِينَئِذٍ بَصَقُوا فِي وَجْهِهِ وَلَكَمُوهُ، وَآخَرُونَ لَطَمُوهُ 68 قَائِلِينَ: «تَنَبَّأْ لَنَا أَيُّهَا اٰلْمَسِيحُ، مَنْ ضَرَبَكَ؟» (متّى 26: 57 – 68).

لم تكن حياة المسيح على الأرض حياة سهلة. ولما بدأ خدمته الجهارية وظهر للملأ، وكانت الجموع تلتف حوله وتزحمه، صادف الكثير من المعارضة والمقاومة والرفض حتى من خاصته الذين جاء إليهم ولم يقبلوه. وواجه المسيح، خلال الأيام القليلة قبل الصلب، شخصيات تمثلت فيها ما يمكن أن يُسمى: بالبشرية عديمة الشفاء. وأعني بها حنّان وقيافا وبيلاطس وهيرودس، الذين لم يستجيبوا للحق مجسماً في المسيح الواقف أمامهم. ولم يستفيدوا من طبيب الأرواح الذي جاء ليشفي ويعطي الحياة الفضلى. ولا شك أن موقف أولئك الرجال من المسيح زاد في آلامه النفسية أكثر من السياط التي ألهبت ظهره، واللكمات التي أصابت وجهه، والجروح التي أسالت دمه.

كان الكهنة اليهود، في ذلك الوقت، يُعينون من قبل الولاة الرومانيين. وكان هذا الأمر بالذات هو مظهر الفساد الذي دبّ في دين اليهود لأن رؤساء الكهنة، خلفاء هارون، كانت تُعيّنهم سلطة أجنبية وثنية. وكيرينيوس والي سوريا هو الذي عيّن حنّان رئيساً للكهنة في سنة 7 م وتم عزله في سنة 15 م. وبذلك يكون قد بقي في منصبه ثماني سنوات. وتظهر شخصية حنّان القوية في سيطرته على سلك الكهنوت حتى بعد عزله من منصبه كرئيس للكهنة، فإن خمسة من أبنائه وبعدهم صهره قيافا احتلوا منصب رئيس الكهنة. وكان حنّان في كل هذه الفترة متصلاً بهم، بل كان هو القوة المحركة والمسيطرة عليهم. كما أنه احتفظ بلقب رئيس الكهنة حتى بعد أن عُزل رسمياً.

أما قيافا فكل ما يقال عنه انه كان صهراً لحنّان. وقد احتل منصب رئيس الكهنة بتعيين روماني من سنة 18 م إلى 36 م ثم عُزل. كان حنّان وقيافا ينتميان إلى جماعة الصدوقيين.. ولقد حصل حنّان وقيافا على ثروة طائلة. ويحدثنا التاريخ الروماني انه عندما حاصر الرومان مدينة أورشليم وجدوا ما يربو على المليونين ونصف من الدنانير كانت في حيازة حنّان. وكان يسوع يوجه الكلام لأولئك الناس عندما قال: «مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!» (متّى 21: 13). فسمعه رؤساء الكهنة والكتبة وفكروا في قتله، لأنهم كانوا يخافونه لأن كل الجموع كانت تتعجب من تعاليمه.

يظهر هذان الرجلان وهما يعملان معاً في وفاق تام وإن يكن حنّان هو العقل المفكر.

أول حقيقة تظهر أمامنا واضحة كل الوضوح، هي أنهما أفسدا مركزهما الديني بأن استخدماه في الحصول على مآربهما الخاصة. كانت لهما حكمة بشرية ممتازة، ويشهد بذلك خطاب قيافا والذي قال فيه: «أَنَّهُ خَيْرٌ أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ» (يوحنا 18: 14). وكان يعني أنه إن لم يكف يسوع عن تعليمه، فستأخذ روما كل الشعب.

والحقيقة الثانية أنهما كانا ميتين روحياً: لم يفهما الله ولم يشعرا بعمله في الوسط الذي كانا يعيشان فيه. فيسوع ابن الله كان يعمل لله والله يعمل فيه، كان يسوع يعمل عمل الله في وسطهم، ولكن هذين الرجلين لم يشعرا بالحقيقة. آمنا بالله إيمان العقل، ولكنهما لم يشعرا بقربه أو بعمله. وكان عماهما وعدم شعورهما سبباً في عداوتهما المستمرة ليسوع. وفي هذين الشخصين نجد صورة لما يمكن أن تصل إليه البشرية من الضلال والفساد.

وإذ بدأت المحاكمة دُعي الشهود. وكانوا شهود زور. ولم يستطع أي منهم أن يعاون قيافا على إقامة تهمة ضد يسوع تؤيد موته. عدا أن واحد شهد أنه قال «بأنه قادر أن يهدم هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام يقيمه». وظهر كذب هذه الشهادة في الإشارة إلى ما قاله يسوع من أنهم هم يهدمون هيكل جسده، وهو (يسوع) يقيمه ثانية. وعندما سمع يسوع شهادات الزور هذه لم يجب عليها لأنه لا يجيب على كلام الكذب.

وكان رد يسوع على سؤال قيافا «أَنْتَ قُلْتَ!» (متّى 26: 64). وسؤالك يا قيافا يحمل الحقيقة التي اعترف بها الذين تبعوه وعرفوه أنه هو المسيِّا ابن الله.

وقال يسوع أكثر من ذلك: «مِنَ اٰلآنَ تُبْصِرُونَ اٰبْنَ اٰلإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ اٰلْقُوَّةِ، وَآتِياً عَلَى سَحَابِ اٰلسَّمَاءِ» (متّى 26: 64). وكأني بيسوع إذ رأى علامات الاستنكار وعدم التصديق تظهر على وجه قيافا ولما أفرغ قيافا كل ما في جعبته، أرسله في الصباح إلى بيلاطس وبهذا يختفي قيافا من الصورة.

وهكذا رأينا حنّان وقيافا، شخصين أفسدا مركزهما الإلهي، ونزلا به إلى أحط دركات الهوان، إذ استخدماه في أغراضهما الذاتية. وسبق يسوع فنطق بالويلات على رؤساء الكهنة لأنهم كانوا يُحملِّون الناس أحمالاً ثقيلة لم يستطيعوا أن يلمسوها بأصابعهم، وأنهم لعلهم كانوا يطيلون الصلاة بينما كانوا يأكلون بيوت الأرامل.

وإننا إذ نتأمل قصة حياة هذين الرجلين، حنّان وقيافا، نجد أنفسنا وجهاً لوجه أمام الحقيقة المخيفة، وهي أنه في استطاعة النفس البشرية أن تصل إلى أحط درجات الفساد، حتى في حضرة الحق الإلهي.