العودة الى الصفحة السابقة
زوجة بيلاطس

زوجة بيلاطس

جون نور


«إِيَّاكَ وَذلِكَ الْبَارَّ، لأَنِّي تَأَلَّمْتُ الْيَوْمَ كَثِيرًا فِي حُلْمٍ مِنْ أَجْلِهِ» (متّى 27: 19).

أليس للمرأة أن تتيه وتفخر على الرجل كلما قرأت قصص الإنجيل!؟ أليس لها وهي توازن بينها وبين الرجل في علاقتهما بالمسيح أن تنشد ترنماً لأنها عاملته معاملة أحسن وأنبل وأجل!؟ لقي المسيح من الرجال فصولاً متعددة ليس فيها ما يشرف الرجولة في شيء!؟ وجد منهم من تبعه قليلاً ثم ارتد عنه!! من أكل خبزه ثم رفع عقبه عليه!. من ضفر له إكليل الشوك وألبسه رداء السخرية، وتفل عليه ومثل به!! أجل.. رأى المسيح من الرجال الهازئ والساخر ومنكر الجميل، وحتى تلاميذه الأوفياء ابتعدوا عنه وولوا يوم الصليب. وأشجعهم أقسم أنه ما عرفه أو اتصل به!!.. أما المرأة فما أجلها وأنبلها وأرقها وألطفها في معاملتها له!! وهل تجد امرأة واحدة في كل الإنجيل امتهنته أو احتقرته أو أساءت إليه!؟ كلا.. لقد وجد منهن كل ولاء وتوقير وتعبُد!! وجدهن دائماً أقرب إليه وإلى قلبه وفكره ومشاعره وإحساسه.. ألم نسمع رجال أورشليم يقولون اصلبه، بينما سارت بناتها وراءه حزينات باكيات يلطمن وينحن عليه.

هذا الفرق البعيد سنبصره اليوم واضحاً خالداً مخيفاً أبدياً بين بيلاطس وزوجته.. في كل الأجيال تدوي هذه الكلمة المرعبة المخيفة: «بيلاطس البنطي الذي حكم على يسوع». ويقف هذا الرجل الروماني على رأس أكبر جريمة عرفها التاريخ مصفد اليدين بأغلال أنانيته وشره وقسوته، اليدين اللتين حاول في ضعف ورياء وجبن أن يغسلهما من أزكى دم جرى على هذه الأرض، هذه هي المرأة التي أريد أن نتأملها الآن بنعمة الله في كلمتين: من هي!؟ ما مواقفها العظيمة!؟

يقولون إن اسمها كلوديا بروكولا، رومانية الجنس وأغلب الظن أنها كزوجة لوال ممتاز كانت امرأة تنتمي إلى الطبقة الارستقراطية العالية كما لا بد أنها كانت على حظ وفير من المعرفة والعلم، والذي يبدو لنا من تتبع قصتها أنها كانت رفيعة النفس سامية الخلق، وهذا يظهر من اصطحابها لزوجها وتغربها معه الأمر الذي لم يكن يجيزه القانون الروماني إلا في أعسر الأحوال وأشدها استثناءً، فإن أوغسطس قيصر أصدر أمراً بتفضيل الوالي الأعزب على المتزوج، وضرورة بقاء زوجته في أرض الوطن إن كان متزوجاً، وقد أبقى طباريوس قيصر على هذا القانون وإن كان قد خفف من غلوائه، وتسامح في تطبيق نصوصه، إذ نعلم أن أكثرية الولاة الرومانيين كانوا يسرون بهذا القانون ويستريحون إليه إذ كان يعفيهم من رقابة زوجاتهم البغيضة، ولعلك تعجب أكثر عندما تعلم أن الزوجات بدورهن كن لا يجدن غضاضة في تقبله والترحيب به في عصر فاض بالخلاعة والمجون والاستهتار والبعد عن الأمانة الزوجية، لكن زوجة بيلاطس لم تكن من هذا الصنف الوضيع بل كانت زوجة شريفة تحب زوجها وتخلص له وتحرص على راحته وعدم مفارقته أينما سار وأنى توجه، ولعلها جاهدت كثيراً حتى أعفيت من تطبيق هذا القانون عليها... كما يظهر أنها كانت ذات طبيعة رقيقة شاعرية حساسة، وحلمها ينبئ إلى حد كبير عن مبلغ رقتها وشاعريتها وإحساسها.

لعل أقوى الأصوات التي رنّت في قلب بيلاطس كان صوت زوجته، فلا أظن أن هذا الرجل كان يبغض امرأته أو ينفر منها، بل لعلها كانت عنده مدللة محبوبة عزيزة الجانب ولا بد أن الله أرسل تحذيره إلى بيلاطس عن طريق زوجته لأن مجيئه منها أوقع في قلبه وآثر إلى نفسه.. إن صوتها هو الصوت الرقيق العطوف الذي شاءت عناية الله أن يرن في جوانب نفسه الموحشة القلقة برنينه العذب الساحر عساه أن يدفع عنه ما يوشك أن يفعل، والمصير الذي يخشى أن يتجه إليه، إنه ذلك التوازن الذي يحدثه الله في حياتنا حتى لا تطغى علينا قوى الشر، إنه ذلك الملاك الذي يوقفه الله إلى جانبنا في الوقت الذي يقف فيه الشيطان إلى الجانب الآخر.

نحن لا نعلم ماذا رأت المرأة في حلمها!؟ وماذا آلمها!؟ أيرجع الأمر إلى أنها رأت كما يظن البعض مأساة الصليب قبل أن تتم بصورتها المفزعة الرهيبة فلم تتحمل المنظر!؟ قد يكون هذا.. ومن يرى المسيح المصلوب دون أن ترق نفسه وتتألم وتعطف!! تدهش زوجة بيلاطس إذ ترى الصليب يتحول شيئاً فشيئاً حتى يصبح كوكباً جميلاً بارعاً يملأ السماء ويفيض بأنواره المتلألئة على الكون... وهنا من قال أنها أبصرت يوم الدينونة، وقد انقلبت الأوضاع، وجلس المسيح على كرسيه يدين الشعوب، وإذا بيلاطس يأتي أمامه مرعوباً مرتعداً مقيداً... قد يكون هذا أو ذاك أو غيره، أن الذي يعنينا فقط من حلمها هو الأثر الذي تركه فيها، والرسالة التي أوحى بها إليها لقد أشفقت على زوجها، ففعلت ما تفعله كل زوجة عظيمة نبيلة تدرك مسؤوليتها في الحياة، إذ أرسلت إليه تحذره وتجنبه مسؤولية صلب المسيح، حقاً إن الزوجة كما دعاها أحدهم الضمير الثاني للإنسان، وكم فعل هذا الضمير في تاريخ البشرية!؟ إذ رفع صاحبه إلى المجد أو هوى به إلى الحضيض، قاده إلى الخير أو دفعه إلى الشر، سار به نحو الفضيلة أو نحا به نحو كل موبقة وإثم..

لقد وضع الله في حياة كل واحد منا ضميراً حياً كما وضعه في حياة زوجة بيلاطس ليتنا نستخدم هذا الضمير لكل ما هو حسن ليعطينا الرب أن نستخدمه كما يريد هو.