العودة الى الصفحة السابقة
قايين

قايين

جون نور


«وَإِنْ لَمْ تُحْسِنْ فَعِنْدَ الْبَابِ خَطِيَّةٌ رَابِضَةٌ» (تكوين 7:4)

في اجتماع ديني وقف ثلاثة: طبيب، ومحام، ومهندس، ليتحدث كل منهم، ويضع تعريفاً للخطية، مستمداً من طبيعة مهنته وعمله، فقال الطبيب «إن الخطية مرض» وقال المحامي: «إنها التعدي» وقال المهندس: «إنها الهدم والتدمير»، وقد كانت الخطية عند قايين موضوع حلقتنا هي الثلاثة معاً، إذ كانت المرض، والتعدي، والهدم والتدمير، بل وأكثر من ذلك، إذ لاحقته بأقسى جزاء يلحق بإنسان في هذه الأرض، ألا وهو العذاب والطرد والتشريد وعدم الاستقرار حيثما اتجه وأنى سار.. دعونا إذاً نتأمل العظة والعبرة شخصية قايين من هو وما طباعه وأخلاقه؟؟ وما الخطايا المميتة التي ارتكبها؟؟ والعقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه؟؟

لا يحتاج المرء إلى كبير عناء، وهو يتأمل قصة قايين واخيه هابيل كما وردت في سفر التكوين. مضافاً إليها ثلاث عبارات أخرى قصيرة حاسمة وردت في العهد الجديد في الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة يوحنا الأولى، ورسالة يهوذا – في أن الخطية صنعت من هذا الإنسان مخلوقاً بشعاً مريعاً يقف على رأس المجرمين العتاة في كل التاريخ.

أما وقد أدركنا طبيعة قايين الشريرة فلنتحول قليلاً لنتأمل الخطايا المميتة التي ارتكبها هذا الرجل، وتزداد هذه الخطايا بشاعة ورهبة وشناعة إذا لاحظنا أن الله لم يتركه ليقدم عليها أو يندفع فيها دون تنبيه أو تحذير!!

يبدو أن كل خطية ارتكبها قايين كانت تمهد وتعد للخطية التي تأتي بعدها!! فخطية عدم الإيمان بالذبيحة ورفضها، مهدت وأعدت لخطية قتل هابيل، وخطية القتل هذه انتهت به إلى الخطية الثالثة: ونعني بها خطية الإصرار وعدم التوبة!! قال له الله بعد أن ارتكب جريمته: «أَيْنَ هَابِيلُ أَخُوكَ؟» (تكوين 4: 9) ولم يكن يقصد الله من قوله هذا أن يريه قايين أين يوجد هابيل أخوه!؟ فالله يعلم أين يثوي هابيل ويضطجع! ولكن الله قصد أن يثير قايين ويدعوه إلى الاعتراف والتوبة!؟ ومن الملاحظ أن الله لم يقل له أين هابيل وحسب بل قال له أين هابيل أخوك، ولعله قصد بذلك أن ينبهه إلى عظم الجرم الذي ارتكبه ضد أخيه!! إن القتل في حد ذاته، بشع رهيب، ولكنه أبشع وأرهب إذا ارتُكب ضد الأخ المحب العزيز... ولعل هذا القول يعزز إلى حد كبير ذلك التقليد القديم الذي يقول إن قايين بعد أن قتل أخيه حار في أين يخفي جثته!! وإذا به يرى غرابين يتقاتلان، ويقتل أحدهما الآخر، وإذا بالغراب القاتل يحفر بمنقاره وقدميه حفرة يدفن فيها الآخر، وإذ رأى قايين هذا المنظر قال: الآن علمت ماذا أفعل بهابيل ثم حفر حفرة ووضعه فيها، وواراه تحت التراب!! وعلى أي حال لقد حاول قايين أن يتخلص من الخطية بالإصرار عليها ودفنها!! ولكن هل يستطيع حقاً أن يدفن الخطية ويغطيها بعيداً عن عيني الله!!؟ كلا وألف كلا!! وما عمله إلا الحماقة الكبرى التي كان عليه أن يتحاشاها بالاعتراف الصريح!! كان من الممكن أن يأتي إلى الله ويقول: أنا أعلم أين أخي!! لقد قتلته بحماقتي وشري، وليس لي من عذر أتقدم به إليك سوى أن ألوذ برحمتك التي وسعت كل شيء وتتسع للمجرم والخاطئ والأحمق والشرير: «اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. لأَنِّي عَارِفٌ بِمَعَاصِيَّ، وَخَطِيَّتِي أَمَامِي دَائِمًا إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ، لِكَيْ تَتَبَرَّرَ فِي أَقْوَالِكَ، وَتَزْكُوَ فِي قَضَائِكَ» (مزمور 51: 1 – 4) ولو قال قايين هذا أو شيئاً من مثل هذا لغفر له الله خطيته الشنيعة..

بعد أن تحدثنا عن قايين وطبيعته الشريرة، والخطايا المميتة التي ارتكبها، يجدر بنا أن ننتهي بالحديث عن العقاب المريع الذي أصابه نتيجة خطاياه، وهذا العقاب إن تحدث عن شيء، فإنما يتحدث قبل كل شيء عن عدالة الله الساهرة الحية التي لا تموت، وقد بدت هذه العدالة في قصة قايين في أكثر من مظهر إذ كانت أولاً العدالة الكاشفة، أو العدالة التي لا يمكن أن يخفى عليها شيء، أو تبهم لديها الأمور، بل هي العدالة التي تزن الظاهر والخفي بميزان دقيق وهي أيضاً العدالة الساهرة التي لا تغفل أو تنام، بل ترقب وتلاحظ كل ما يجري على الأرض، وترى من حقها التدخل بين الإنسان وأخيه، إذ أن حقها في الواقع أسبق على كل حق، بل أساس كل حق، ومصدر كل حق.. وقد يتصور قايين أنه ليس لأحد حق محاسبته أو محاكمته على كل ما فعل، ولكنه سرعان ما يتبين أنه واهم، وأن ديّان كل الأرض، قد أوقفه أمام كرسيه ليعطي حساباً عما فعل ضد أخيه..

على أننا لا يمكن أن ننتهي من الحديث عن قايين دون أن نذكر تلك العلامة التي أعطاها له الله حتى لا يقتله كل من وجده، ونحن لا نعلم ما هي!!؟ ومن العسير على أحد أن يجزم بنوع هذه العلامة وهيئتها!!؟ ولكنها إن تحدثت وأكدت شيئاً فإنها تتحدث وتؤكد أن الله لا يحاكم إلى الأبد ولا يحقد إلى الدهر، وأنه في وسط الغضب يذكر الرحمة، وأنه حتى قايين الآثم الشرير الذي لم يرحم أخاه يمكن أن يجد رحمة عند الله.

إن رحمة الله واسعة وتشمل خطاة مثل قايين فمهما كانت حياتك عزيزي التجأ بها إلى الرب الغافر وسيغفر كل خطاياك.