العودة الى الصفحة السابقة
أيوب الصديق

أيوب الصديق

جون نور


«بِسَمْعِ الأُذُنِ قَدْ سَمِعْتُ عَنْكَ، وَالآنَ رَأَتْكَ عَيْنِي» (أيوب 5:42).

في إحدى معسكرات أسرى الحرب العالمية الأخيرة، وجدت هذه الكلمات التي كتبها أحدهم: إني أؤمن بالشمس حتى لو لم تكن ساطعة، وأؤمن بالمحبة حتى ولو لم أحس بها، وأؤمن بالله حتى ولو صمت ولم يتكلم!!... حقاً نحن لا نعلم ماذا سيأتي به الغد. ولكننا نعلم من يمسك بالغد!!...

قصة أيوب في كل التاريخ هي قصة الواقفين على خط النار في أتون الآلام، إذ هو الرجل الذي تتطلع إليه الأجيال كنموذج عظيم للانتصار على التجارب والمآسي: أو كما يذكر الرسول يعقوب: «هَا نَحْنُ نُطَوِّبُ الصَّابِرِينَ. قَدْ سَمِعْتُمْ بِصَبْرِ أَيُّوبَ وَرَأَيْتُمْ عَاقِبَةَ الرَّبِّ. لأَنَّ الرَّبَّ كَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَرَؤُوفٌ» (يعقوب 11:5)... ولعلنا بعد هذا كله يمكن أن نرى القصة فيما يلي:

يعتقد بعض المفسرين أن الاسم «أيوب» مشتق من الكلمة العبرية التي تناظر في العربية «آبَ» أي رجع... فهو «التائب» أو «الراجع». ولعلهم قصدوا أن يصوّروه في قوله أمام الله: «لِذلِكَ أَرْفُضُ وَأَنْدَمُ فِي التُّرَابِ وَالرَّمَادِ» (أيوب 6:42)...وهناك من يعتقد أن الاسم يعني «المضطهد» أو «المتألم».. وأياً كان الاسم، فما من شك أن الرجل كان شخصية تاريخية، وليس مجرد شخصية خيالية أو رمزية،.. وفي الواقع أن كتاب سفر أيوب، هو كما وصفه فيكتور هيجو قائلاً: ربما هو أعظم كتاب على الأرض واجه الذهن البشري.

من الواضح أن أيوب كان أعظم رجل شرقي في عصره، وأنه من «عوص» التي يُعتقد أنها كانت في الطرف الشمالي للجزيرة العربية، وتقع بين فلسطين ونهر الفرات،.. وربما كانت المدينة على اسم «عوص» من سلالة سام!!...

فإذا تحولنا إلى أخلاق الرجل وصفاته، نجد أنه وُصف بأربعة أوصاف أساسية: «وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلاً وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي اللهَ وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ» (أيوب 1: 1 و8، 3:2)... ولا يعني الكمال أنه كان بلا خطية،.. فهو قد تحدث عن خطاياه، وأنه لا يمكن أن يظهر الإنسان كاملاً أمام الله،... ولكن الكمال بالمعنى النسبي، وقد أوضح الرسول بولس هذا الكمال النسبي في رسالة فيلبي عندما قال: «لَيْسَ أَنِّي قَدْ نِلْتُ أَوْ صِرْتُ كَامِلاً، وَلكِنِّي أَسْعَى... فَلْيَفْتَكِرْ هذَا جَمِيعُ الْكَامِلِينَ مِنَّا... » (فيلبي 3: 12-15).

إن النقطة التي يبدأ بها سفر أيوب، وينتهي، هي الحوار غير المنظور،الذي ابتدأ بين الشيطان والله وانتهى بين الله وأيوب.. فهذا الشيطان الذي مثل أمام الله يطلب أيوب، هو نفسه الذي مثل أمام السيد لنفس الشيء بخصوص تلاميذه. وكما ادعى الشيطان أن أيوب لا يعبد الله مجاناً، وأنه لو سلم في يده لأثبت هذا، هو نفسه الذي أراد أن يفتك بتلاميذ المسيح، وهو يصورهم على استعداد أن يتركوا المسيح عند أقل بادرة كما قال المسيح في إنجيل لوقا: «هُوَذَا الشَّيْطَانُ طَلَبَكُمْ لِكَيْ يُغَرْبِلَكُمْ كَالْحِنْطَةِ!»... (لوقا 31:22)... وهو «الَّذِي كَانَ يَشْتَكِي عَلَيْهِمْ أَمَامَ إِلهِنَا نَهَارًا وَلَيْلاً» (رؤيا 10:12).....

لقد أخذت قصة أيوب قوتها أمام الأجيال والتاريخ، في أن الله يريد أن يكشف الحقيقة الثابتة لديه، والغائبة عن العالم والشيطان والتاريخ: إن نعمة الله الحافظة قوية منتصرة على طول الخط، وأن علاقة المؤمن بالله تضرب جذورها العميقة في المحبة الإلهية – محبة المسيح لنا وليست محبتنا للمسيح – والتي جعلت بولس يتحدى الشيطان في قوله العظيم: «مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ مَنْ هُوَ الَّذِي يَدِينُ؟ اَلْمَسِيحُ هُوَ الَّذِي مَاتَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ قَامَ أَيْضًا، الَّذِي هُوَ أَيْضًا عَنْ يَمِينِ اللهِ، الَّذِي أَيْضًا يَشْفَعُ فِينَا. مَنْ سَيَفْصِلُنَا عَنْ مَحَبَّةِ الْمَسِيحِ؟ أَشِدَّةٌ أَمْ ضَيْقٌ أَمِ اضْطِهَادٌ أَمْ جُوعٌ أَمْ عُرْيٌ أَمْ خَطَرٌ أَمْ سَيْفٌ؟ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: إِنَّنَا مِنْ أَجْلِكَ نُمَاتُ كُلَّ النَّهَارِ. قَدْ حُسِبْنَا مِثْلَ غَنَمٍ لِلذَّبْحِ وَلكِنَّنَا فِي هذِهِ جَمِيعِهَا يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا. فَإِنِّي مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ لاَ مَوْتَ وَلاَ حَيَاةَ، وَلاَ مَلاَئِكَةَ وَلاَ رُؤَسَاءَ وَلاَ قُوَّاتِ، وَلاَ أُمُورَ حَاضِرَةً وَلاَ مُسْتَقْبَلَةً، وَلاَ عُلْوَ وَلاَ عُمْقَ، وَلاَ خَلِيقَةَ أُخْرَى، تَقْدِرُ أَنْ تَفْصِلَنَا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (رومية 8: 33-39)....

إن الحقيقة المثيرة التي ينبغي أن ننبه الناس إليها، في قصة أيوب، والتي تقلبها رأساً على عقب، هي أن أيوب صمد في المعركة لسبب واحد لا أكثر ولا أقل، وقد ذكره السيد المسيح في قوله: «وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. أَبِي الَّذِي أَعْطَانِي إِيَّاهَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْكُلِّ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْطَفَ مِنْ يَدِ أَبِي»... (يوحنا 10: 28 و29).

إن الناس، كبروا أو صغروا، ما هم إلا دُمى في يد الشيطان يلعب بهم ويستخدمهم في حربه مع المؤمنين!!... ومن أول التاريخ البشري حتى نهايته، من اللحظة التي اختبأ فيها الشيطان في الحية، والتي ظهر فيها في الصليب والتي فيها ارتكب يهوذا جريمته الكبرى بعد أن دخله الشيطان،.. وإلى آخر القصة البشرية، لا ينبغي أن نحوّل النظر عنه، لأنه دائم الجولان والتمشي في الأرض، «لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ، يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ»... (1بطرس 8:5) هل يستطيع البشر كتابة التاريخ من هذه الزاوية؟... إنهم إن عجزوا، فإن الأبدية سترويه وستقصه من هذه النقطة المثيرة التي لا يتعمق الناس في دراستها، وهم يناقشون مسرحية الإنسان ولعبته الكبرى في الأرض!!...

لقد انتهت قصة أيوب بالبركة المضاعفة، وبالأولاد السبعة والبنات الثلاث البارعات الجمال،.. وبالحياة الصابرة التي عوّضها الله كل شيء بسخاء عظيم!!...