العودة الى الصفحة السابقة
حِساب الوَزنات

حِساب الوَزنات

جون نور


«فَأَعْطَى وَاحِدًا خَمْسَ وَزَنَاتٍ، وَآخَرَ وَزْنَتَيْنِ، وَآخَرَ وَزْنَةً. كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ طَاقَتِهِ» (متّى 15:25).

يقول المثل ان رجلا من كِبار الأغنِياء جمع ثَروته على الأغلب من التِجارة وكانت تِجارته متسعة تشمل كل الأقاليم المَعروفة وهو يَتهيّأ لرحلة كَبيرة. قيل إنه كان ذاهباً إلى رومية ليقابل القيصر ويتسلّم منه فرماناً بالحكم. وقيل إنه نجح في مُهِمّته وعاد أميراً. على أن الأمر الذي يهمّنا في قصّة الرجل الجزء الخاص بتشغيل ثَروته أثناء رِحلَته. دعا الرجل عَبيده وسَلّمهم أمواله ولا تذكر القِصّة كل شيء عن أولئك العَبيد. إذ تكتفي بذكر ثلاثة نعتقد أنهم ذكروا على سَبيل المِثال. أعطى الأول خَمسة أكياس من الفِضّة وهو ما يعبر عنه بخمس وَزنات. وكانت وَزنة الفِضّة تُساوي مبلغاً كبيراً من المال بالنسبة لزماننا الحاضر – وأعطَى الثَاني وَزنَتين أو كيسين. وأعطَى الثَالِث كيساً وَاحِداً. فإذا قيل إن الوزنات كانت ذهبيّة فإن المَبلغ يَتضاعَف عَشرات المَرّات.

سواء كانت الوزنات من فضة أو من ذهب فهي مبلغ كبير على كل حال. وقد كان السيّد في تَسليمه لأمواله حَكيماً إذ رَاعى في ذلك مقدرة كل واحد منهم وأعطاهُم كل واحد على قَدر طَاقَتِه. ولا بُدّ أنه طَلب منهم أن يُشغِلوا ذلك المَال في مَا يَستطيعونه إن كان في تِجارة أو زِراعة أو صِناعة. ولا بُدّ أنه أوصاهُم بالاجتِهاد والحَذَر والأمانة... وسافر للوقت ويُمكننا متابعة العَبيد أو على الأقل مُتابعة العَيّنات الثَلاث مِنهم فأما الأول فكان رَجلاً عَظيم الاقتِدار عَظيم التَقدير. وقد درس الأسواق وفهم أسرار التِجارة، فوق أنه كان كثير النشاط. وجعل يَعمل بوزناته عمل التاجر الحَكيم. فزرع الزيتون والعنب واستخرج الزيت والخمر وتاجر مع الصوري والصيداوي وارتبط بعلاقات مع فينيقيّة ومقدونية ورومية. وارتفعت الأسعار فَجَنى من ارتِفاعها ربحاً كَثيراً وجَعلت وَزناته تَزداد حتى صارت الوَزنات الخَمس عشراً! والثاني كان نَظير الأول في اجتِهاده ونشاطه ولكنه لم يكن نظيره في الحكمة والتدبير. كان ينقص عنه قليلاً. وقد اشتغل في الزِراعة والتِجارة على قدر مقدرته ونجح إلى حد بعيد وها نحن نرى الوزنتين وقد صَارَتا أربَعاً!

أمّا الثَالِث فأخذ الوَزنة متذمّراً. لماذا يُعطيه سيّده وزنة واحدة فقط؟ وماذا تعمل وزنة واحدة في زِراعة وتِجارة؟ إنها لا شَيء. لو أنها كانت خمس وزنات أو عشراً أو عشرين لكانت شَيئاً يمكن استِغلاله. أما وَزنة واحدة فماذا عَساه أن يَعمل بِها؟؟

ثم... لماذا يعمل؟ لماذا يتعب في زِراعة أو تَجارة؟ هل سيعود عليه ربح من جَرّاء تَعبه؟ إن كل رِبحه سيعود على السَيّد! إن سَيّده إنسان قَاسٍ يحصد حيث لم يَزرَع ويَجمَع مِن حَيثُ لَم يُبذِر!

إذن فخير ما يَعمله أن يَصِرّ الوزنة في مَنديل ويحفر في أرض الكرم خلف بَيته ويطمر الوزنة هُناك. وها هي الوزنة في مكانها وزنة كاملة ولو أن التراب والماء قد كوّنا طبقة من الصَدأ على كل قطعة من الفضة وأصبحت وزنة من نقود صدئة بدلاً من تلك الوزنة اللامِعة الجَميلة.. ولكنها ظَلّت وَزنة! وفي أحد الأيّام عاد السيد وأرسَل إلى عَبيده ليأتوا ويعطوا حساباً عن المال الذي سَلّمه لهم وجاءوا وقدم الأول حسابه: «يَا سَيِّدُ، خَمْسَ وَزَنَاتٍ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا خَمْسُ وَزَنَاتٍ أُخَرُ رَبِحْتُهَا فَوْقَهَا!» وسُرّ السيد كثيراً وقال للرجل «نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَالأَمِينُ! كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى الْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ!» (متّى 25: 20 و21) قيل إن الفرح أُقيم بمناسبة تولي الرجل الإمارة أو الملك. وإن السيد ترك الوزنات العشر مع العبد بل أقامه متسلّطاً على وِلايات خاضِعة للملك الجَديد. وإنما كان الغَرض من تَشغيل الوَزنات امتِحان حَكمة الرَجل واجتِهاده وأمانته!

وجاء الثاني وقال: «يَا سَيِّدُ، وَزْنَتَيْنِ سَلَّمْتَنِي. هُوَذَا وَزْنَتَانِ أُخْرَيَانِ رَبِحْتُهُمَا فَوْقَهُمَا!» (متّى 25: 22). وكذلك سُرّ السَيّد كَثيراً! إن قِلّة ربح العبد لم تؤثّر في تَقدير السيّد له. إنه صالح وأمين وهو يسمع نفس الكلمات التي قيلت للعبد الأول. لا يهمّ السيد إلاّ أن نكون أمناء لِلوَزنات التي عندنا بل إنه لِيُخيّل لنا أن العَبد، إذا فرضنا أنه كان قد خَسر، فإن السيّد ما كان ليلومه إذا كانت الخسارة رغماً عنه. إن كل المطلوب منه أن يكون مجتهداً وأميناً. وهو فِعلاً مُجتهد وأمين. إذن هو يأخذ الوزنتين ويأخذ بعد ذلك نفس الثناء والتقدير الذي ناله العبد الأول!!

وجاء الثالِث! جاء يحمل الوَزنة مَصرورة في مَنديل وقال: «يَا سَيِّدُ، عَرَفْتُ أَنَّكَ إِنْسَانٌ قَاسٍ، تَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ تَزْرَعْ، وَتَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَبْذُرْ فَخِفْتُ وَمَضَيْتُ وَأَخْفَيْتُ وَزْنَتَكَ فِي الأَرْضِ. هُوَذَا الَّذِي لَكَ!» (متّى 25: 24 و25) وغضب السَيّد إن العَبد يُظلِمه كَثيراً إنه لَيس قَاسِيّاً. كلا. إن قلبه رقيق إلى درجة أنه يَبكي وهو يرى دموع البَاكين. وعندما يرى الجمهور المَسكين يَتحَنّن. هل يمكن أن يكون قاسياً من يبذل وقته وصِحته وراحته في سبيل إسعاد الآخرين؟ إنه لا يطلب شيئاً لِنَفسِه! والعَبد يَظنّ أنه كان أمينا ألم يردّ الوَزنة كَامِلة غير مَنقوصة؟ إنه لَم يُظلِم سَيّده!!!

كلا. لقد سرقه. إن مال الرجل ليس شَيئاً جامداً. إنه شَيء يَتحرّك. كان يُمكِنه أن يَربح. وإذا لم يكن للرجل جلد على التجارة أو الزِراعة فكان يمكن أن يوضع المال عند الصَيارِفَ ويُشغِله أولَئِكَ في أعمالهم المَالِيّة ويُعطون عَنه رِبحاً! غضب السيد وقال للعبد: «أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ وَالْكَسْلاَنُ، عَرَفْتَ أَنِّي أَحْصُدُ حَيْثُ لَمْ أَزْرَعْ، وَأَجْمَعُ مِنْ حَيْثُ لَمْ أَبْذُرْ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَضَعَ فِضَّتِي عِنْدَ الصَّيَارِفَةِ، فَعِنْدَ مَجِيئِي كُنْتُ آخُذُ الَّذِي لِي مَعَ رِبًا» والتفت السَيّد إلى عَبيده وقال: «خُذُوا مِنْهُ الْوَزْنَةَ وَأَعْطُوهَا لِلَّذِي لَهُ الْعَشْرُ وَزَنَاتٍ». إن الذي له رِبح يستحقّ أن يُزاد رأسماله. أمّا الذي لا رِبح له فنفس رأس المال يُؤخَذ مِنه!! «كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى فَيَزْدَادُ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ» وبعد ذلك نظر بصرامة نحو العبد وقال: «وَالْعَبْدُ الْبَطَّالُ اطْرَحُوهُ إِلَى الظُّلْمَةِ الْخَارِجِيَّةِ، هُنَاكَ يَكُونُ الْبُكَاءُ وَصَرِيرُ الأَسْنَانِ» (متّى 25: 26 – 30).