العودة الى الصفحة السابقة
يسوع على جبل التجربة

يسوع على جبل التجربة

جون نور


«وَلِلْوَقْتِ أَخْرَجَهُ الرُّوحُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ، كَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ» (مرقس 1: 12 و13).

هيا بنا نذهب مع يسوع إلى البرية. هيا بنا على أجنحة الخيال. تسألني أية برية؟ في الحق إني لا أعلم. قال البعض إنها برية سينا وقال آخرون إنها البرية الواقعة إلى الجنوب الغربي من أريحا. ومع ذلك فلماذا نسأل عن المكان ونحن نرافق السيد؟؟

وإذ ندخل معه إلى البرية نحس برعشة، فإنه يدخل إلى قلب البرية حيث تقيم الوحوش الضارية. وفي ذلك المكان استقر مدة أربعين يوماً! ماذا كان يعمل في تلك المدة؟

قيل إنه كان في حضرة الآب في شركة روحية كما كان موسى. فلم يأكل ولم يشرب إذ شبعت نفسه من الحضور الإلهي. وقيل بل كان طول الوقت يُجرب من إبليس.

نظن أنه كان فعلاً في حضرة الله ولكن الشيطان كان يحاول أن يصل إليه وكان يرسل سهامه ضده. وهل من الغريب أن يجرب الشيطان ابن الله وهو في حضرة الله؟

لا نعرف شيئاً بالمرة عن التجارب التي شغلها إبليس طيلة الأربعين يوماً، ولكننا نعلم إن السيد كان في حالة روحية ظافرة وأن كل سهام إبليس تكسرت!

بعد صيام يسوع أربعين يوماً جاع أخيراً وهنا بدأت سلسلة التجارب القوية. جاء إبليس وقال له: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا» (متّى 4: 3).

نحن لا نرى أمامنا إبليس في صورته المخيفة. لا نراه في جسم الحية ولا في صورة الوحش. لكننا نرى إنساناً ظريفاً رقيقاً. نتطلع إليه أكثر فإذا هو ملاك نور وهو يتحدث إلى يسوع بنغمة البراءة. إنه يشفق عليه من الجوع ويتضايق أن الآب يترك ابنه يجوع. ويضع في كلامه المعسول سماً غير ملحوظ «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ» ترى هل قصد أن يشككه في بنوته لله. أم هل قصد أن يبعث في قلبه روح التذمر في عناية الآب، أم هل قصد أن يدفعه إلى عمل أناني. أم هل قصد أن يثير في نفسه كل هذه الأحاسيس الآثمة.

وكذلك لا يبدو سمّه واضحاً في قوله «فَقُلْ أَنْ تَصِيرَ هذِهِ الْحِجَارَةُ خُبْزًا» أليس هو ابن الله. ألا يملك قوات خارقة. لقد رأيناه فيما بعد يطعم خمسة آلاف نفس من خمسة أرغفة. فلماذا لا يطعم نفسه؟ حقاً إن إبليس عدو مخيف. إنه يجرب تجارب ظاهرة السهولة. وويل لمن ينزلق فيها.

أما مخلصنا فيرى السمّ في الدسم ويرد سهم العدو إليه فيقول: «مَكْتُوبٌ: لَيْسَ بِاٰلْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا اٰلْإِنْسَانُ، بَلْ بِكُلِّ كَلِمَةٍ تَخْرُجُ مِنْ فَمِ اٰللّٰهِ» (متّى 4: 4). وفي جوابه هذا أعلن للعدو أن الله كفيل بكل شيء وهو حكيم ومحب ويعتني بخاصته!

كان السهم الذي رده يسوع للعدو قاتلاً وكان ينتظر أن يعود الشيطان خائباً. ولكن الشيطان لا يفشل. إنه يحاول محاولة ثانية. ها هو يقف بجانب يسوع على جناح الهيكل وهو ذلك الجزء الناتئ الذي بنى على وادي يهوشافاط من علو شاهق. وقد قال المؤرخ اليهودي المعروف يوسيفوس إن علوه كان أربع مئة ذراع. يعتري الناظر منه إلى أسفل دوار. وقال العدو له: «اطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ». أي من سطح الهيكل إلى الدار الوسطى أو من سطح الرواق إلى الوادي. «اطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ!!» (متّى 4: 6).

كان عند اليهود تقليد يتوارثونه عن مجيء المسيا إنه عندما يجيء يأتي من السماء محمولاً على أيدي الملائكة إلى أن يستقر في صحن الهيكل. وها هو العدو يقول ليسوع: ألست أنت المسيا الآتي، إذن اطرح نفسك إلى الأسفل وعندما يراك جمهور الشعب في هذا الموكب العظيم سيخرُّون عند قدميك معترفين أنك أنت المسيح. يا له من موكب! وبالطبع لا يجوز لك أن تخاف. إنك لن تُصاب بشيء. إنك تستند على المكتوب في كلمة الله ألا تتمسك بالمكتوب، ألم تقل لي من لحظة إنه مكتوب إنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. اسمع إذن المكتوب أنه يوصي ملائكته بك!

وعاد السيد إلى المكتوب أيضاً وصوَّب للعدو أيضاً سهماً جبَّاراً فتَّاكاً. مكتوب أيضاً «لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ!!» (متّى 4: 7) فهل خجل العدو. هل عاد إلى مسكنه مدحوراً؟ كلا. بل أرسل سهماً آخر.

تمت التجربة على جبل عال جداً. يُحتمل أنه جبل نبو أو تابور أو حرمون المعروف بجبل الشيخ الذي ترى منه كل الأرض المقدسة وبعض سورية ويُحتمل أنه جبل الزيتون العالي بالنسبة لما حوله من الجبال!

أشار العدو إلى الممالك المنظورة من الجبل وما لها من مناظر خلاّبة ومواقع حصينة وبالجملة ما لها من أمجاد. وقال له: إن كل هذا قد دفع لي وأنا أعطيه لمن أريد. ثم قال إنه مستعد أن يعطي يسوع كل هذا إذا خرّ وسجد له. ولا شك أن البشير مرقس كشف التجربة هنا فإنها لم تكن سافرة ولا شك بهذه الصورة. ونظن أن العدو قال ليسوع إنك قد أتيت لتسترد العالم عن طريق الألم والصلب والموت. فأنا مستعد أن أسلمه لك بأقل من ذلك. ليس من داع لأن تُصلب وتموت. كل ما أطلبه أن تستعمل شيئاً من أساليبي. يا لها من تجربة. لو أن السيد خضع له لكانت النتيجة وهي فرض مستحيل بدون جدال!

نظر السيد إلى إبليس نظرة اخترقت إلى أعماقه وأخرجت إلى النور حقيقة شخصه وانتهره قائلاً: «اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ! لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ» (متّى 4: 10).

اختفى إبليس. وجاءت ملائكة تخدم يسوع. فقدمت له كل حاجاته. عاد يسوع منتصراً.

أما إبليس فرجع إلى مكانه وقد أصابته سهام قاتلة. لكن هل سلم بالهزيمة؟

كلا. كلا. لقد فارق يسوع إلى حين فقط. وبعد وقت ظل يلاحقه بتجاربه كما سنرى ذلك في حلقات لاحقة. ولكن يسوع انتصر في كل المواقع لأنه خرج غالباً ولكي يغلب!!