العودة الى الصفحة السابقة
امرأة لوط

امرأة لوط

جون نور


«وَنَظَرَتِ امْرَأَتُهُ مِنْ وَرَائِهِ فَصَارَتْ عَمُودَ مِلْح» (تكوين 19: 26)

لست أظن أن هناك نصباً تذكارياً أعجب أو أغرب أو أصدق أو أقدم من جثمان امرأة انتصب في الطريق وتجمّد على هيئة عمود ملح،.. وكانت المرأة كما نعلم امرأة لوط تعيش منذ قرابة أربعة آلاف عام ما بين سدوم وعمورة على مشارف البحر الميت في فلسطين!!.. إننا في قصة اليوم سنسمع الشهادة الحقة، من يسوع المسيح نفسه عندما قال: «اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ!!» (لوقا 17: 32) ومن الغريب أن الإنسان لا يحتاج للذهاب إلى البحر الميت ليرى هذا النصب التذكاري العجيب، إذ أنه ينتصب في العادة في كل زمان ومكان، في صورة أي إنسان تأتيه الظروف الطيبة في بادئ الأمر، فيتعلق بها، ويسير معها ولكنه لا يلبث أن يتحوّل عنها منجذباً وراء باطل هنا أو غرور هناك،... عاشت امرأة لوط لتكون الصورة عينها، لمن بدأ حسناً، ولم تقطع الشوط كله، فصارت عبرة تُروى، وستُروى حتى تنتهي الأرض وما عليها، عندما يأتي المسيح في مجيئه الثاني العظيم العتيد!!..

لا يذكر الكتاب شيئاً عن حياة هذه المرأة قبل أن تتزوج لوطاً، لكن الرأي الراجح أنها لم تكن من أهل سدوم وعمورة، ومن المتصور جداً أن المرأة استمعت مع لوط زوجها إلى الكثير من التعاليم من أبينا إبراهيم، بل ومن المتصور أيضاً أنها أخذت الكثير من مبادئ سارة ومثلها وأفكارها وعواطفها، هذا إلى جانب شركتها، كواحدة من العائلة في تقديم المحرقات والذبائح التي كان يقدمها إبراهيم على المذبح أمام الله... كانت المرأة إذن ذات بداءات واضحة في الرؤيا والإيمان والتعليم والعبادة والخدمة والحق.

على أنه إلى جانب هذه كلها، كانت هناك سلسلة من التجارب تزحف على قلب المرأة، وتأخذ سبيلها إلى هناك، لتسكن وتبقى وتتأصل وتترعرع، ولعل أول هذه التجارب، تجربة الحسد، إذ ترى إبراهيم ينمو في كل شيء، ويتضاءل لوط إلى جانبه،!!..

وما أكثر ما توالت على المرأة وزوجها وبيتها من خسائر فادحة في مدينة سدوم، ولعل أولى هذه الخسائر كانت الراحة المفقودة، لقد أخذت كل شيء، ولكنها مع ذلك لم تأخذ الراحة أو في لغة أخرى أن لوطاً لم يعرف الراحة قط في يوم من الأيام في المدينة الشريرة التي انتقل إليها، وهو يظن أنه سيسعد ويستريح، وكيف يمكن أن يسعد من يستبدل أحلى الترانيم بأشر الأغاني، ولغة البركة بأقسى اللعنات، وصلاة الحمد بأنين التذمر!!.. إن سدوم وعمورة ومدن الدائرة، لم تكن تعرف في يوم من الأيام إلا الصراخ والأنين والألم والتعاسة والشقاء، في قلب ما تتصور أنه عرف الضحك والترنم والبهجة، إذ لا سلام قال إلهي للأشرار، ولذا لا عجب أن يقول الله لإبراهيم: «إِنَّ صُرَاخَ سَدُومَ وَعَمُورَةَ قَدْ كَثُرَ، وَخَطِيَّتُهُمْ قَدْ عَظُمَتْ جِدًّا!!...» (تكوين 18: 20) إن سلم الراحة على الدوام له ثلاث درجات متصاعدة، الدرجة الأولى، درجة الماديات، حيث يأخذ الإنسان حظه المادي في الأرض، وأعلى منها الدرجة الأدبية، حيث يرتفع الإنسان فوق المادة إلى عالم الأدبيات والمعنويات من كرامة وعزة واعتبار وفضيلة وشرف، والدرجة الأعلى والأسمى، الدرجة الروحية، حيث يسير الإنسان بقدميه على الأرض، لكنه يعيش مع الله والمسيح في السماويات، في شركة أسمى وأعلى من كل ما تقدم الأرض، وحيث يأخذ أجنحة النسور، ليعلو على كل أجواء الدنيا الخانقة القاتلة.

امرأة لوط خسرت كل شيء، إذ خسرت عظة الملائكة، ويبدو أن الله أرسل لها هذه العظة، بعد إن فقدت عظات زوجها كل أثر في حياتها، إذ يبدو أنها كانت تنظر إلى كلماته ونصائحه، كما نظر أصهاره إلى ما قال، وكان كمازح في أعينهم، وشاء الله أن يرسل لها ملاكين يعظانها، عن الخراب الوشيك الرهيب الذي سيقع على المدينة، ولكن تأثير العظة كان وقتياً وإلى لحظات، فما أسرع ما فقدت الرسالة تأثيرها،. وهي مثل كثيرين الذين يمكن أن يقال لهم عندما تخلو حياتهم من زيت النعمة: لو أننا نتكلم بألسنة الناس والملائكة، فما أنتم بسامعين أو منصتين لأن حياتكم مترعة بالماديات، وآذانكم مشغولة، عن سماع رسالة الحياة، بضجيج هذا العالم وصراخه!!... وجاء في أثر هذا أيضاً، خسارة أولادها الذين بقوا في سدوم، وبناتها وأصهارها، من المثير حقاً، إن المرأة فقدت إلى جانب هذا كله ما سعت وشقت وتعبت في الحصول عليه، إذ فقدت الثروة بأكملها، والشهرة بأكملها، والنفوذ بأكمله، لقد تحوّل كل شيء أطلالاً وأنقاضاً، سعى إليها البوم والغربان وبنات آوى، ومن المؤكد أنها لم تجد شيئاً ألا الدمار والخراب،.. وآخر الكل فقدت المرأة نفسها، وسواء كان هذا بسبب الشك الذي ربما تسرّب إليها، إذ قطعت شوطاً طويلاً بعيداً عن المدينة، دون أن يحدث هذا الانقلاب الذي حدث عند شروق الشمس في الصباح، أو لأنها امتلأت بالحزن والحنان والأسى، على ما تركته هناك في المدينة من أحياء وأموال!!.. أو لأنها لم تستطع أن تدرك للحياة معنى بعد أن فقدت كل شيء!!.. هل لنا بعد ذلك كله، أن نذكر أن المرأة، وقد أفزعت ولا شك زوجها وبنتيها، وهي تتحوّل فيما يشبه الصاعقة أمام عيونهم، إلى عمود ملح، يرنو بعينين فقدتا النور والضياء، إلى مدينة سدوم، هل لنا أن نذكر، بأنها قد جعلت بهذا المعنى عبرة لجميع الأجيال، كما أضحت سدوم وعمورة سواء بسواء، وأنها ستبقى هكذا حتى يأتي المسيح حسب قوله الصادق الأمين المبارك: «هكَذَا يَكُونُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي فِيهِ يُظْهَرُ ابْنُ الإِنْسَانِ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ مَنْ كَانَ عَلَى السَّطْحِ وَأَمْتِعَتُهُ فِي الْبَيْتِ فَلاَ يَنْزِلْ لِيَأْخُذَهَا، وَالَّذِي فِي الْحَقْلِ كَذلِكَ لاَ يَرْجعْ إِلَى الْوَرَاءِ. اُذْكُرُوا امْرَأَةَ لُوطٍ!» (لوقا 17: 30 – 32).

لنأخذ من امرأة لوط درساً في حياتنا عندما نتعلق بالماديات ونترك الروحيات ليعطنا الرب أن ننظر إلى فوق من حيث تأتي البركة.