العودة الى الصفحة السابقة
ليدية بياعة الأرجوان

ليدية بياعة الأرجوان

جون نور


«فَفَتَحَ الرَّبُّ قَلْبَهَا لِتُصْغِيَ إِلَى مَا كَانَ يَقُولُهُ بُولُسُ» (أعمال الرسل 16: 14)

قصة ليدية بائعة الأرجوان قصة جميلة نموذجية لسعي الله الحثيث وراء القلب البشري، السعي الذي لا يتعب أو يكل أو ينتهي، السعي الذي يسخر الشوق والتعب، المادة والعاطفة، الإنسان والطبيعة، الليل والنهار، النوم واليقظة، الخفي والمنظور، حتى يغزوه ويمتلكه.. منع الروح بولس من أن يتوغل في آسيا ويتكلم فيها بكلمة الله، وبعث إليه وهو قلق مرتبك حائر لا يدري كيف يتوجه برجل مكدوني يستغيث: «اعْبُرْ إِلَى مَكِدُونِيَّةَ وَأَعِنَّا!» (أعمال الرسل 16: 9)، وعبر بولس إلى هناك، عبر ليغزو القلب الأول في أوروبا للمسيح. ومن جمال التوفيق أن يكون هذا القلب قلب امرأة لا رجل.

هذه هي المرأة التي أرجو أن نتأملها الآن من نواح ثلاث: المرأة التي فتح الرب قلبها، وكيف فتح الرب هذا القلب، والثمار الحلوة لهذا القلب المفتوح.

نحن الشرقيون نفخر أن القلب الأول للمسيح في أوروبا كان قلباً شرقياً خالصاً محضاً!؟ وإن ازدهار المدنية الأوروبية، يرجع قبل كل شيء وأول كل شيء، إلى أن المرأة فيها سبقت الرجل إلى معرفة المسيح، وستظل الكنيسة في أوروبا وسائر أرجاء المعمورة شامخة قوية موطدة الأركان طالما كانت المرأة فيها قبل الرجل ومن ورائه المسيح.. إنها عندئذ ستقدم لنا أنجب الأطفال وأكمل الرجال، بل إنها يومئذ ستنفث في كل شيء روحاً سحرية ماجدة عظيمة.. ولدت ليدية في مدينة ثياتيرا في مقاطعة تحمل اسمها، وكانت لثياتيرا شهرة بالغة في الصباغة وصناعة الحرير، ونحن نعلم من قصة الكتاب أن ليدية كان تتجر في الأرجوان لكننا لا نعلم شيئاً عن السبب الذي دعاها إلى هجرة بلدها والانتقال إلى فيلبي. ألا أنها لم تصب حظاً أوفر من النجاح كانت ترجوه في مكان آخر!؟ أم لأنها كما يظن البعض قد قضى زوجها في ثياتيرا، فآثرت المرأة أن تبتعد ما أمكن ببيتها وتجارتها عن المكان الذي فجعت فيه بوفاة زوجها، هل كانت تتلمس شيئاً من الراحة والنسيان والعزاء.. لا نعلم! الله وحده يعلم. كما ولا نعلم فيما أظن ماذا يقصد الكتاب بعبارة «أهلها» أهم أولادها وهل كان لها أولاد!؟ أم هم خدمها!؟ أم العمال المساعدون الذين كانوا معها في تجارتها!؟

على مسرح الحياة تقف أمامنا هذه المرأة جريئة قوية باسلة لا تروعها غربة أو يهزمها بعد، أو يقهرها كفاح الحياة، فهي تنأى عن أهلها ومدينتها وعشيرتها لتطلب الحياة والتجارة في بلد بعيد، كما أنها كانت قوية التفكير بارعة الإقناع سديدة الحجة ولعلها قد اكتسبت الشطر الأكبر في هذه الخصلة مما ألفته من التعامل التجاري مع الناس، فقد استطاعت بأسلوب جميل رقيق لبق أن تقنع بولس الأبي أن يدخل بيتها، ويخيل إلينا أيضاً أنها كانت قوية الشخصية من أولئك اللواتي يستطعن أن يفرضن شخصيتهن على الآخرين لا بالاستبداد والتحكم والعنف بل بسحر الإعجاب والجاذبية والتقدير.. وهذا يبرز جلياً في تأثيرها على بيتها ومن معها، لأن الكتاب يبين أنها ما أن اعتمدت حتى اعتمد أهل بيتها معها.. وهل ننسى أنها كانت امرأة كريمة فاض كرمها وتابع بولس أينما ذهب نسيم رائحة طيبة في المسيح يسوع.

كيف فتح الرب هذا القلب؟

إن لله طرقاً عجيبة في فتح القلب، ولعله لم يعامل أبداً قلبين معاملة واحدة، فهناك قلوب صلدة صلبة، وأخرى هادئة وادعة ساكنة، هناك قلوب تهرع إلى الله مدفوعة بنداء الجمال، وأخرى تأتيه فزعة مروعة من مخاوف الموت، وهناك قلوب تأتي إليه لأنها تحن إلى السماء وموسيقى السماء ومجد السماء، بينما تقرب منه أخرى خوفاً من الجحيم وعذاب الجحيم ورهبة الجحيم.. تقترب منه بعض القلوب إذ ترى نوراً أبهر من الشمس يرهبها كبولس، وأخرى إذ تفزع من زلزال يروعها ويقض مضجعها كسجان فيلبي، وثالثة إذ يأتيها صوت عميق يناديها بتفاهة الدنيا وأوهامها وأباطيلها وغرورها.. كانت الحقائق أمام ليدية مختلطة فجاءها بولس ليفصل بين الحق والباطل، بين النور والظلمة، بين القبح والجمال جاءها بولس ليرسم لها الطريق الفاصل بين الله والشيطان، وما أن وضح أمامها هذا الطريق حتى سارت وراء الله، وآمنت واعتمدت..

وجعلت من بيتها مكان الاجتماع والعبادة وحين خرج بولس وسيلا من السجن ذهبا إلى هناك ووجدا الإخوة مجتمعين، كما أنها لفرط تعلقها بالله تعلقت بخدامه، جاهدت مع بولس ورفاقه حتى أقنعتهم بقبول ضيافتها، وفي الوقت ذاته نرى ليدية كتلميذي عمواس تعبر عن روح الضيافة الحقة التي يجب أن تسود أتباع المسيح وتلاميذه جميعاً، ما أحوجنا كشرقين ومسيحيين معاً أن نستعيد هذه الروح التي أخذت للأسف تذبل وتتلاشى بفعل المدنية الغربية وتأثيرها فينا.

لا أود أن أختم الحديث عن ليدية دون أن أذكر أنها ومدينتها اشتهرتا بروح السخاء في العطاء والتوزيع. كان القلب الفيلبي أفضل القلوب وأكرمها من هذه الناحية. لقد عبّر عن شكره لله بما يعد في الواقع المقياس الحقيقي للحياة المتعبدة.. بتقدمة المال.. وها نحن نرى بولس يذكرهم بكل ثناء في ختام رسالته إليهم: «ثُمَّ إِنِّي فَرِحْتُ بِالرَّبِّ جِدًّا لأَنَّكُمُ الآنَ قَدْ أَزْهَرَ أَيْضًا مَرَّةً اعْتِنَاؤُكُمْ بِي الَّذِي كُنْتُمْ تَعْتَنُونَهُ» (فيلبي 4: 10)... «وَأَنْتُمْ أَيْضًا تَعْلَمُونَ أَيُّهَا الْفِيلِبِّيُّونَ أَنَّهُ فِي بَدَاءَةِ الإِنْجِيلِ، لَمَّا خَرَجْتُ مِنْ مَكِدُونِيَّةَ، لَمْ تُشَارِكْنِي كَنِيسَةٌ وَاحِدَةٌ فِي حِسَابِ الْعَطَاءِ وَالأَخْذِ إِلاَّ أَنْتُمْ وَحْدَكُمْ» (فيلبي 4: 15). ليعطينا الرب وليعطى كل امرأة مؤمنة انه كما فتحت ليديا قلبها وبيتها للرب ان نتمثل بها وبحياتها.