العودة الى الصفحة السابقة
بارتيماوس الأعمى

بارتيماوس الأعمى

جون نور


«46 وَجَاءُوا إِلَى أَرِيحَا. وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ مِنْ أَرِيحَا مَعَ تَلَامِيذِهِ وَجَمْعٍ غَفِيرٍ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ اٰلأَعْمَى اٰبْنُ تِيمَاوُسَ جَالِساً عَلَى اٰلطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي. 47 فَلَمَّا سَمِعَ أَنَّهُ يَسُوعُ اٰلنَّاصِرِيُّ، اٰبْتَدَأَ يَصْرُخُ وَيَقُولُ: «يَا يَسُوعُ اٰبْنَ دَاوُدَ، اٰرْحَمْنِي!» 48 فَاٰنْتَهَرَهُ كَثِيرُونَ لِيَسْكُتَ، فَصَرَخَ أَكْثَرَ كَثِيراً: «يَا اٰبْنَ دَاوُدَ، اٰرْحَمْنِي». 49 فَوَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى. فَنَادَوُا اٰلأَعْمَى قَائِلِينَ لَهُ: «ثِقْ. قُمْ. هُوَذَا يُنَادِيكَ». 50 فَطَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ. 51 فَسَأَلَهُ يَسُوعُ: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فَقَالَ لَهُ اٰلأَعْمَى: «يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ». 52 فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «اٰذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ». فَلِلْوَقْتِ أَبْصَرَ، وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي اٰلطَّرِيقِ» (مرقس 10: 46 – 52).

إذ ندرس قصة بارتيماوس نجد أنفسنا مع يسوع في طريقه إلى الصليب، كما نجد أننا في المكان عينه الذي تقابل فيه يسوع مع زكا أثناء زيارته لأريحا. وكانت أريحا في ذاك الوقت مدينة عظيمة، يربو عدد سكانها على مائة ألف نسمة. وعلى الطريق بالقرب من مداخلها كان يجلس أو يقف عدد كبير من المتسولين. وكان أكثرهم من العميان.

وإذا بدأنا قصة بارتيماوس نتذكر قول يسوع في الكتاب المقدس عندما قال «لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقس 10: 45). وبهذا يعلن يسوع القصد من مجيئه إلى العالم لكي يخدم. وهذا ما يجب أن نضعه أمامنا ونحن ندرس قصة بارتيماوس ومعاملة يسوع له.

وواضح أن هذا الأعمى كان معروفاً. فمرقص يسجل اسمه ويترجم هذا الاسم بقوله (ابن تيماوس). هذا يعني أن الرجل وأباه كانا معروفين للتلاميذ. وقصة هذا الرجل لا تشير إلى مجرد فتح عينيه، بل تشير أيضاً إلى بداء تلمذته الحقيقية.

أول ما نرى هذا الرجل، في القصة التي أمامنا، نراه أعمى، وأعمى يستعطى، ويعيش على تقدمات المحسنين من المارة، جالساً على الطريق لا يستطيع أن يرى أي شيء مما يقع حوله. ولكنه كان حاد السمع، كما هو الحال مع الذين يفقدون بصرهم.

وفي أحد الأيام سمع أصواتاً غير عادية من جمهور غير عادي، ووقع أقدام جمهور كثير يمر بجواره. فسأل عن كل هذا وجاءه الجواب «إنه يسوع الناصري مجتاز».

أول ما نلاحظه على بارتيماوس هذا أنه حالما عرف أن يسوع الناصري مجتاز تقدم إليه بطلبه في الحال. وهو جالس في مكانه يستعطي صرخ قائلاً: «يَا يَسُوعُ اٰبْنَ دَاوُدَ، اٰرْحَمْنِي!». وطريقة طلبه هذه تفصح لنا عن معرفة سابقة للرجل، فقد وصفه بكلمات من أوصاف المسَيّا «يَسُوعُ اٰبْنَ دَاوُدَ». وواضح جداً أن هذا الرجل الذي كان يعتمد في معيشته على عطايا بعض المارة كان يطلب عطية أخرى من ذلك النبي الذي سمع الكثير عنه، والذي لا بدَّ أنه كان المسيِّا، فطلب منه الرحمة كما قال «ارْحَمْنِي!». وواضح أيضاً أن هذا الرجل لم يطلب صدقة من المسيح، ولكننا نراه يتعدى الضروريات المادية، ويطلب العطية الثمينة التي تنقصه، وهي البصر. وقد وضع طلبه تحت رحمة يسوع.

والشيء الثاني الذي يبرز في موقف هذا الرجل الأعمى هو مثابرته. «انتهره كثيرون». وربما كان التلاميذ ضمن الذين انتهروه. وحجتهم في ذلك اهتمامهم بسيدهم الذي كان يجوز في ظلال الآلام العتيدة أن يتحملها. وبعدما قضى وقتاً في أريحا ودخل بيت زكا، عرف التلاميذ انه يترك المدينة، متجهاً ومثبتاً وجهه نحو أورشليم في رحلته الأخيرة إليها. ولذلك لم يكن من اللائق أن يزعجه إنسان أعمى. على أن مثابرة بارتيماوس كانت أقوى عندما صرخ أكثر كثيراً «يَا اٰبْنَ دَاوُدَ، اٰرْحَمْنِي!». وإننا نستطيع أن نستمع إلى رغبة هذه الإنسان الملحة في نبرات صوته الذي ارتفع فوق ضوضاء الجموع المحتشدة حول يسوع. وحينئذ «وَقَفَ يَسُوعُ وَأَمَرَ أَنْ يُنَادَى» ولما فعلوا ذلك «طَرَحَ رِدَاءَهُ وَقَامَ وَجَاءَ إِلَى يَسُوعَ». وهنا نرى بارتيماوس يتصرف بسرعة وعزم – طرح رداءه حتى لا يعيقه في سيره للوصول إلى يسوع.

ولما وصل إلى يسوع سأله: «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» فكان جوابه واضحاً مركَّزاً: «يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ» أن أستطيع أن أرفع عينيَّ لكي أرى. أعلن عن حاجته بدون تردد وبدون شرح أو تعليق.

وبعد ما حصل بارتيماوس على بصره ونال سؤل قلبه «وَتَبِعَ يَسُوعَ فِي اٰلطَّرِيقِ». وهذا يعني أكثر من مجرد السير مع الجموع. وحالما أبصر هذا الرجل، رأى أمامه وجه يسوع ثم رأى يسوع يتقدم في مسيره في الطريق ووجهه مثبت نحو أورشليم، فتبعه في الطريق. وكان آخر تلميذ ينضم إلى جماعة يسوع.

أما عن يسوع نفسه فقد كان يخطو نحو الصليب ليكمل رسالته التي جاء إلى العالم من أجلها، وليبذل نفسه فدية عن كثيرين. ولكنه وقف استجابة لصرخة أعمى. وهكذا وقف الموكب السائر نحو الصليب بروح الصليب. ولما طلب من تلاميذه أن ينادوا الرجل قالوا له «ثق». وهذه هي المناسبة الوحيدة التي استعمل فيها التلاميذ هذا التعبير، بينما نرى يسوع يستعمل الكلمة عينها في خمس مناسبات أخرى، حين واجه ظروف الحاجة البشرية. ولما جاء الرجل إلى يسوع وسأله يسوع «مَاذَا تُرِيدُ أَنْ أَفْعَلَ بِكَ؟» وأتاه الجواب الحاسم «يَا سَيِّدِي، أَنْ أُبْصِرَ». قال له يسوع «اٰذْهَبْ. إِيمَانُكَ قَدْ شَفَاكَ» فللوقت أبصر.

وهذه القصة ليست مجرد حادثة تاريخية، ولكنها تتحدث إلينا برسالة عظيمة – فالقصة مثَل. وكما قال أحدهم «كل مثَل ليسوع هو معجزة وحكمة. وكل معجزة ليسوع هي مثَل للتعليم». وبارتيماوس كان شخصية تاريخية، ولكنه يمثل البشرية في الطريق العام، عمياء تستعطي. وهذا ما نراه اليوم في العالم. فالبشرية عمياء عن كل حقائق الحياة السامية، وهي دائماً تسأل وتستعطي شيئاً يسدُّ عوزها. ولكنها تطلب هذا الشيء بعيداً عن مصدره الحقيقي، ولذلك فهي تتخبط دون فائدة.

وفوق ذلك فإن هذه القصة تنير الصليب. فقد قال يسوع «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ أَيْضًا لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ» (مرقس 10: 45).

كان بارتيماوس إنساناً محتاجاً ونفساً حزينة تطلب رحمة يسوع وهذا ما ملأ قلبه، أي قلب يسوع. وكان قصده في العالم أن يخدم البشرية في الطريق. كان في طريقه ليقدم حياته فدية، ولذلك وقف عندما سمع صرخة المسكين.

واليوم تستطيع كل نفس بشرية تحسُّ بحاجتها إلى العلاج الروحي وتطلب الطهارة القلبية، أن تتقدم إلى يسوع الناصري ذاته، فهو هو أمساً واليوم والى الأبد – فسيقف ويعطي تلك النفس حاجتها، عندما يقول لها «اذهبي إيمانك قد شفاك».