العودة الى الصفحة السابقة
المرأة النازفة الدم

المرأة النازفة الدم

جون نور


«43 وَاٰمْرَأَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اٰثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً، وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ، وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ، 44 جَاءَتْ مِنْ وَرَائِهِ وَلَمَسَتْ هُدْبَ ثَوْبِهِ. فَفِي اٰلْحَالِ وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. 45 فَقَالَ يَسُوعُ: «مَنِ اٰلَّذِي لَمَسَنِي!» وَإِذْ كَانَ اٰلْجَمِيعُ يُنْكِرُونَ، قَالَ بُطْرُسُ وَاٰلَّذِينَ مَعَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، اٰلْجُمُوعُ يُضَيِّقُونَ عَلَيْكَ وَيَزْحَمُونَكَ، وَتَقُولُ مَنِ اٰلَّذِي لَمَسَنِي!» 46 فَقَالَ يَسُوعُ: «قَدْ لَمَسَنِي وَاحِدٌ، لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي». 47 فَلَمَّا رَأَتِ اٰلْمَرْأَةُ أَنَّهَا لَمْ تَخْتَفِ جَاءَتْ مُرْتَعِدَةً وَخَرَّتْ لَهُ، وَأَخْبَرَتْهُ قُدَّامَ جَمِيعِ اٰلشَّعْبِ لأَيِّ سَبَبٍ لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ بَرِئَتْ فِي اٰلْحَالِ. 48 فَقَالَ لَهَا: «ثِقِي يَا اٰبْنَةُ. إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ. اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ» (لوقا 8: 43 – 48).

في هذه القصة نجد يسوع يعالج إنساناً ليس له الجرأة التي تجعله يواجه يسوع، امرأة لم تجد الشجاعة لتواجه يسوع ولكنها غامرت حتى وصلت إليه وكوفئت على مغامرتها.

ويسجل البشيرون الثلاثة – متّى ومرقس ولوقا – قصة هذه المرأة ويخبروننا عن حقيقة حالها.وكانت المرأة تعاني بسبب نزف دم. ونقرأ في الأصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين عدد 19 – 37 التعليمات المشددة التي يجب أن تتبع في مثل حالة هذه المرأة، ومنه لزوم العزلة عن الجماعة، وعدم الاشتراك في العبادة ما دام نزف الدم مستمراً، وهكذا بقيت المرأة منبوذة كل تلك السنين. وكانت هذه المرأة في حالة خطيرة. ودليلنا على ذلك السنوات الطويلة التي قضتها في الألم بسبب دائها. ولوقا، وهو طبيب، يعلن يأسها في قوله «وَقَدْ أَنْفَقَتْ كُلَّ مَعِيشَتِهَا لِلأَطِبَّاءِ، وَلَمْ تَقْدِرْ أَنْ تُشْفَى مِنْ أَحَدٍ». أما مرقس فيقول عنها «وَقَدْ تَأَلَّمَتْ كَثِيرًا مِنْ أَطِبَّاءَ كَثِيرِينَ، وَأَنْفَقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا وَلَمْ تَنْتَفِعْ شَيْئًا، بَلْ صَارَتْ إِلَى حَال أَرْدَأَ» (مرقس 5: 26).

وبسبب النظرة الخاطئة إلى هذه المرأة حُرمت من الهيكل والمجمع وكل الشعائر الدينية. وبحسب شريعة معلمي اليهود وأحبارهم، طُلقت من زوجها وحُرمت الحياة العائلية، وكان كل هذا يعني حتماً نفيها من المجتمع.

وإننا نجد في هذه المرأة، لا إنساناً ضعيفاً فحسب، بل إنساناً يائساً أيضاً بعد تلك السنوات الطويلة المحزنة.

كانت المرأة بين حشود الجموع التي التفّت حول يسوع، وسارت في موكبه إلى بيت يايرس. وكانت الجموع تزحم يسوع. ومن المدهش أن امرأة ضعيفة هزيلة استطاعت، بدافع الأمل الجديد في داخلها، أن تقترب من يسوع في ذلك الزحام الشديد وتلمسه.وهنا يجب أن نعرف أن الكلمة اليونانية المترجمة في هذه القصة «مسست». تعني في أصلها «أمسكت». وهذا ما كانت تقصده المرأة وهي تفكر في الاقتراب من يسوع حين قالت «إن مسست ولو ثيابه شفيت».

والآن وقد اقترب يسوع إليها، ورأته يجوز أمامها، ورأت ثوبه، ورأت ثوبه الأسمنجوني (انظر سفر العدد 37:15)، تندفع بين الجموع الحاشدة وتمسك هذا الهدب.

وفي الحال تحقق يقينها، وأحست أن متاعب السنوات الإثنتي عشرة قد انتهت ووقف نزيف دمها. وسعت المرأة في الانصراف بهدوء بعد ما حصلت على ما رغبت.

نلاحظ أن يسوع لم يتجاهل هذه المرأة، ولكنه وقف عن سيره مع يايرس، وسأل سؤالاً لم يعرف جوابه سوى المرأة وحدها. وكان سؤاله «من لمسني؟». وبذلك أعلن يسوع أن شخصاً تعلَّق به في إيمان وطيد، وأنه وجد صدى لهذا الإيمان في القوة الشافية التي خرجت من يسوع إليه. وفي هذا نكتشف الحقيقة التي يجب أن لا نتغافلها، وهي أن ربنا يسوع المسيح لا بد أن يستجيب المطالب القائمة على الإيمان في شخصه، ولا يخيَّب انتظار واثق به.

ولما قدَّم يسوع سؤاله احتج بطرس والآخرون احتجاج الاستغراب. فماذا كان معنى يسوع بسؤاله هذا بين الجموع المحتشدة التي تزحمه من كل جانب! إنه كان يعني أن شخصاً اتصل به أكثر من مجرد لمسة بسبب الزحام، ليحصل منه على قوة خاصة ضرورية، وبرهن سؤال يسوع هذا على أنه عرف الفرق بين دفع الجموع وزحمتهم، وبين لمسة النفس المؤمنة المحتاجة.

وكانت المرأة تسحب نفسها في هدوء بعيداً عن الجموع بعدما نالت الشفاء المطلوب. ولكن لما سمعت يسوع يقدم سؤاله عرفت أن هناك شيئاً آخر ضرورياً. فجاءت إلى قدام وهي خائفة مرتعدة. ولكن لماذا الخوف والارتعاد؟ لأنها عرفت أن لمستها ليسوع، حسب الشريعة، نجّست يسوع. ومع ذلك فقد تجرأت ولمست، وتجرأت على الشريعة. وأنّا نعرف يقيناً بأن لمسة المرأة لم تنجس يسوع لأن طهارته ليست سلبية بل إيجابية.

ظروف هذه المرأة فكان مشكوكاً فيها. شفيت تماماً وتطهرت تماماً. ولكنها كانت خالية الوفاض لا تملك شيئاً. وكانت بلا صديق، وكانت بلا زوج، وكانت منبوذة محرومة حسب الشريعة – وعرف يسوع كل هذا. ولكن كيف يعاملها المجتمع؟ وكيف تنظر إليها عائلتها؟ وماذا يفكر فيها رجال الدين؟ إنهم يعتبرونها خارجة عنهم، أما يسوع فقال لها «يا ابنة». وباستعماله هذه الكلمة الرقيقة اعتبرها متبناة في عائلة الله. وهذا أهم من كل الاعتبارات الأخرى.

قال لها يسوع أيضاً «ثقي». ومهما صورت لها المخاوف بالنسبة لمستقبلها، فإن يسوع يقول لها لا سبب للخوف.

وقال يسوع للمرأة أيضاً «اذهبي بسلام». وعلى أساس ما حصل معها تدخل الآن في السلام، حتى وإن لم يكن من السهل عليها أن تسترد مكانتها بين عائلتها وفي المجتمع، ولكنها الآن صارت ابنة مَن تبناها.

وفي المسيح يجد كل إنسان شفاءً كاملاً من أسقامه الروحية والأدبية، ويسمع قولته المطمئنة للنفس «اذهبي بسلام. واذهب بسلام».