العودة الى الصفحة السابقة
الرجل الأبرص

الرجل الأبرص

جون نور


«40 فَأَتَى إِلَيْهِ أَبْرَصُ يَطْلُبُ إِلَيْهِ جَاثِياً وَقَائِلاً لَهُ: «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!» 41 فَتَحَنَّنَ يَسُوعُ وَمَدَّ يَدَهُ وَلَمَسَهُ وَقَالَ لَهُ: «أُرِيدُ، فَاٰطْهُرْ». 42 فَلِلْوَقْتِ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ ذَهَبَ عَنْهُ اٰلْبَرَصُ وَطَهَرَ. 43 فَاٰنْتَهَرَهُ وَأَرْسَلَهُ لِلْوَقْتِ، 44 وَقَالَ لَهُ: «اٰنْظُرْ، لاَ تَقُلْ لأَحَدٍ شَيْئاً، بَلِ اٰذْهَبْ أَرِ نَفْسَكَ لِلْكَاهِنِ وَقَدِّمْ عَنْ تَطْهِيرِكَ مَا أَمَرَ بِهِ مُوسَى، شَهَادَةً لَهُمْ». 45 وَأَمَّا هُوَ فَخَرَجَ وَاٰبْتَدَأَ يُنَادِي كَثِيراً وَيُذِيعُ اٰلْخَبَرَ، حَتَّى لَمْ يَعُدْ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَدِينَةً ظَاهِراً، بَلْ كَانَ خَارِجاً فِي مَوَاضِعَ خَالِيَةٍ، وَكَانُوا يَأْتُونَ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ» (مرقس 1: 40-45).

عندما كان يسوع يشفى المرضى، لم يكن ينقض نظام الحياة الصحيح، بل بالحري كان يعيد الحياة إلى نظامها الصحيح وهو الصحة. وأريد أن أكرر هنا حقيقة مهمة، وهي أن كل الأمراض إنما هي نتيجة حتمية لكسر ناموس من النواميس. ولكن هذا لا يعني أن كل شخص يتألم من مرض جسماني يكون سببه خطيته هو. ولذلك ونحن نتأمل مريض اليوم، الرجل الأبرص، وهو أمام الطبيب الأعظم، يجب ألا ننظر إليه كخاطئ أكثر من غيره لأنه يقاسي آلام البرص الفظيع.

في الموعظة على الجبل، نطق ربنا بأكمل آداب الحياة البشرية وأسماها. وإذ ننظر إلى ربنا، ليس حين ألقى هذه الموعظة فحسب، بل في قصة حياته، كما نجدها في الإنجيل الكريم، نجده يعلن معنى هذه الآداب السامية في صفاته وفي ذاته.

ومع أن المسيح وجَّه عظته هذه إلى تلاميذه، كما يقول متّى «وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ» (متّى 1:5)، فإن الجماهير أيضاً تجمعت حوله واستمعت إلى أقواله. وهذا واضح من قول متى أيضاً في نهاية هذه النشرة الملكية: «بُهِتَتِ الْجُمُوعُ مِنْ تَعْلِيمِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ» (متّى 29،28:7).

بينما كان يسوع نازلاً من الجبل يحيط به تلاميذه وتزحمه الجموع، حدث هذا الحادث الأخاذ. فها هو أبرص يقترب من يسوع. والأبرص حسب الشريعة منعزل عن كل الناس، ولا يجوز له أن يقترب منهم ويلامسهم. وماذا حدث؟ كنا على الجبل نستمع إلى يسوع يلقي شريعة تفوق شريعة موسى لأنها تكملها، وكانت تحمل معها قوة الإقناع، فماذا يكون موقفه من هذا الأبرص؟

يصف متّى الرجل الأبرص يقترب من يسوع بكل احترام «ساجداً» كمن يقدم ولاء الطاعة، ثم يقول يا سيد «إِنْ أَرَدْتَ تَقْدِرْ أَنْ تُطَهِّرَنِي!». ولم يتأخر يسوع في إجابة طلبه، قولا وعملا، فقال له يسوع. أريد فاطهر. ومدَّ يده ووضعها على الأبرص. وفي الحال اختفى البرص. وإذ ننظر إلى يسوع نفسه في هذا الموقف نرانا أمام الطهارة المتجسدة. وكان يسوع قد قال لتلاميذه إن لم يزد برُّكم على الكتبة والفريسيين فلا قيمة له. وبرّ المسيح في هذا الموقف كان يشتمل على معرفته الكاملة لله، وعلى موافقته التامة لمشيئة الله وصفاته. ولذلك هو الشخص الوحيد الذي يملك الطهارة المطلقة.

والآن لنلتفت إلى هذا الرجل المسكين وهو في حضرة المسيح، حيث يستيقظ إحساسه بحاجته الملحة. إنه عرف حاجته قبل الآن، ولكنه عرف أيضاً أن حالته ميئوس منها بالنسبة لكل اعتبار بشري، ومع ذلك كان يرغب، ككل مريض آخر، في الشفاء من علته القاسية. وجاء إلى يسوع مقتنعاً بأن في استطاعته أن يعمل له شيئاً. وهذا واضح من قوله «يا سيد إن أردت تقدر». وقد يكون هذا الرجل سمع عن يسوع، أو قد يكون رآه من قبل، ولكنه يعترف بقوة يسوع وقدرته، وإن لم يكن واثقاً من إرادته.

وكان اقتراب هذا الرجل من يسوع، «وهو مملوء برصاً» كما يصفه لوقا الطبيب، منطوياً على مخاطرة جريئة، مخاطرة رجاء وأملِ، ومخاطرة رغبة ملحة للشفاء.

وماذا كان موقف يسوع من هذا الرجل الأبرص؟ إن يسوع لم يشمئز منه ولم يزدر به. وكان جوابه على طلبة الرجل، جواباً سريعاً. فقال له يسوع «أريد» ومدَّ يده ووضعها عليه.

وكانت شريعة موسى تمنع لمس الأبرص منعاً باتاً (اقرأ سفر اللاويين أصحاح 14، 15). ولهذا يقول بعض المفسرين بأن يسوع، إن كان قد لمس الأبرص، فيكون قد كسر الشريعة. ويحاول البعض التخلص أو التهرب من هذه الصعوبة بالقول إن الناموس لا ينطبق على يسوع. ولكن هذا التهرب خاطئ، لأن يسوع «وُلد تحت الناموس» وأطاع الناموس بحذافيره. إذاً كيف نعلل لمس يسوع للأبرص بينما الشريعة تحرمه تحريماً كلياً؟ كانت لمسة يد يسوع للرجل هي الرمز السري المقدس لحقيقة طهارته وبراءته من برصه.

وهذه القصة تكشف لنا عن حقيقة عظيمة. فعندما يواجه المسيح إنساناً يقاسي آلام الخطية، وهي البرص الروحي، فإنه يحرك فيه الشعور بالحاجة إلى القوة والأمل في الشفاء. وقد يتردد من يجيء إلى يسوع، أو قد يقترب إليه وعلى شفتيه كلمة «إن». ولكن يسوع في عطفه وحبه يقبل مثل هذا، ما دام يضع طلبه بين يديه. ويسوع المسيح الذي له القدرة على التطهير والشفاء من البرص الجسدي، لا بد أنه يملك القدرة أيضاً على التطهير من الفساد الخلقي. وهذا في الواقع، هو إنجيلنا بل هذا هو إنجيل العالم كله.

ولا تزال لهذه القصة مناسبتها وقيمتها. فالعالم مملوء بالبرص، وهنا أشير إلى البرص الروحي، برص الشهوات الفاسدة، برص الغضب وحدة الطبع، برص الكبرياء، برص الأنانية. والديانة الشكلية والطقوس الخارجية.

إذاً فكيف نعالج هذا البرص الروحي المنتشر بين الناس؟

أعتقد أن هناك جواباً واحداً على هذا السؤال الخطير. وهذا الجواب هو أن نتقدم بهؤلاء المرضى وهم كثيرون إلى شخص المسيح لأنه «لَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال 12:4). والمسيح وحده هو الذي «يَقْدِرُ أَنْ يُخَلِّصَ أَيْضًا إِلَى التَّمَامِ الَّذِينَ يَتَقَدَّمُونَ بِهِ إِلَى اللهِ، إِذْ هُوَ حَيٌّ فِي كُلِّ حِينٍ» (عبرانيين 25:7).